الليل يتباطأ في الانسحاب... يتحايل في الرحيل.. يحاول أن يقضم بعض أطراف النهار.. لبد من سحب وضباب متعثر يحجب الشمس عن قبل العصافير دفئاً ونوراً.
الشمس ترسل خيوطاً صفراء.. تصبغ الأرض بلونها.. شمس باهتة, غير محاربة, متصالحة مع الظلام, لاتريد أن تأخذ حقها كاملاً في الظهور. أو كأن الليل يأبى أن يغادر المدينة, فيبقي بعض أزلامه, شعاعها الخافت يرسم الخيبة وينسج الهزيمة.
أشباح ليل لا تريد أن تبارح المكان ..تختفي هنا وهناك, وأكفان موتى تلف كل شيء.
يغمض عينيه عبد الله ..يسكن حدقات العيون في جوف أهدابه , يدفن وجهه في كفيه.. يواري معها سوأة البشر وعورة الزمن القبيح .
يسترسل في نومه لا يريد أن يستيقظ فيكون هذا صباحه وهذا نهاره , جلب قسراً من أزمنة أخرى غير زمانه.. حشر في ثوب ليس من نسيج أمه ولا لون زمانه .
حمام البر ما عاد يعشق الجبال, وجياد الرهبة تجر الخديعة والضياع, خفافيش الليل تقاسم الطيور جوها وماءها وهواءها ونهارها والليل لها وحدها .
رؤوس الشياطين تنبت في المدائن .. تزاحم سنابل الذرة زاد الحياة, أذؤب (ذئاب) تغتصب الورود, وتسرق عبق الزهور.
كل شيء بدا باهتاً, تهاوت الأزمنة في السقوط, وتمادت اللحظات في السكون.
عبد الله يفضل ليلة حالمة على نهار صامت, أدار للخيوط الصفراء ظهره وراح يغط في نومه الحالم.
رمقه أبوه بسهام كأنها الشرر, راح الأب يلف عمامته وكأنه يلف سنوات عمره ..يلف المسافة بينه وبين قبره.
بدأ الأب يتنحنح ويتحفز للنهوض.. توجه نحو ابنه بخطىً مثقلة بعبء السنين .
استهل يومه بتوبيخ ابنه ونعته بكل النعوت .
انتزعه من حضن أحلامه وأحضره إلى زمنه وكأنه رسول الأزمنة الغابرة .
فتح عبد الله إحدى عينيه وقبض على الأخرى .. قام متثاقلاً يندب حظه ويلعن زمانه .
أبو عبد الله - كما كان يحب أن يُـنادَى - طلب من ابنه باعتداد أن يذهب الى سيدي أحمد ليخبره أنه على الموعد ليقيم المولد.
كان يحيي هذا المولد في كل عام. كان ذلك نذر عليه. لم يفشِ سبب النذر, لقد دفنه في صدره ونسيه .
ذات مرة شق جيوب الكتمان وصرح بأنه من أجل حفظ أبنائه, على التو زجره سيدي أحمد.. إفشاء الأمر يذهب البركة.
أنطلق عبد الله ..اختفى بين البيوت القديمة والحارات العتيقة .
راح الأب يجمع قوته وقوت عرسه وأولاده .. يتحضر ويستحضر ما ادخروه في سابق الأيام وسالف الزمان من حبوب وسمن وعسل وثمن للذبيحة ليجودوا بها على سيدي أحمد ومن سيحضر من الصالحين .
كل هذا لا يساوي ما سينالون من الرضى والبركه.. هو أجر كبير وحصن حصين لا تساويه قربى أوعبادة .
الحج فقط لمن أستطاع, أما المولد فهو نذر عليه. وقد سأل العارفين وحذروه من تركه .
تابع عبدالله السير نحو مهمته.. حينما وصل أخذ حجراً وطرق الباب بشدة متناهية.. دوت ضرباته في الفضاء.. تردد صداها في الجبال المسكونة والبقاع المهجورة .
هو لا يطرق باباً هو يطرق جبهة سيدي أحمد.. هو يفرغ حزنه وحنقه, يصب جام غضبه .
لقد فجع في نومه, وقوت أسرته, وتعب أمه في إعداد قهوة حليمة .
أطلت عليه من نافذة صغيرة امرأة في شدة الرجال, وفي حزم وبأس صبت عليه وابلاً من الشتائم .
آه.. فقد النصر الذي تحقق.. ابتلع ريقه وابتلع معه حزنه وهزيمته .
طأطأ رأسه الى الأرض, وفي صوت حانق رماها برسالة الأب .
لم يَـحْـظَ بجواب ..هو أيضا لا يريد أن يسمع, انطلق وهو يركل ما يصادفه من أحجار وعلب فارغة،, حتى حزنه وأوجاعه وهزيمته وكل شيء ..كل شيء ..كل شيء .
قبل أن تسحب رأسها شيعته بما يستحق من اللعنات والشتائم . هو لم يعد يكترث لهذا, صوب خطاه نحو الحميري .
هذه المرة لم يكن شغفه باللعب هو الدافع الوحيد, بل يريد أن يستثمر تعبه وتعب أهله.. يسعى لأن يقبض الثمن.. يريد أن يبدوَ محظوظاً أمام رفاقه .
الحميري يستلقي في حضن القرين.. يداعب أقدام غول المدينة (القلعه) تتكفل منارات الهدى بحراسته ..تحميه من خزي الكلمات وزيف الشفاة .
تحج اليه الصبية من كل حدب وصوب, يبعدهم المكان عن أمواج الوجع ومخافر الزمن العضود.
(غُـدَف) هو أول من صادفه, صبياً منسياً, هو خارج الزمن, لا يعرف له أب أو أم , لا يعرف من الذي أتى به .
جلب من الأزمنة الغابرة بثيابه الرثة وجسمه المهترئ المغطى بطبقة سميكة من الأتربة .
وجهه الحزين يعكس وجع السنين. ملامح وجهه الشاحبة وتقاسيمها أسست لها أيدي الناس وصفعات الزمن .
غير أم صادق لها كل الأجر والرضوان, بسطت له نصف قلبها والفؤاد, ذرفت له نصف الدموع, واقتسمت له الرغيف. ضمت بين جناحيها غبنه ويتم وليدها. منهما الحزن ومنها الدموع, منهما الجوع ولها الوجع .
وجده أقرانه بلا إسم فتبرعوا له بهذا الإسم .
كانت له أذنان جميلتان معقوفتان إلى الأمام , ونصف عينين , الحياة لاتستحق أكثر من ذلك مداها ضيق ومجالها أضيق . ملك الألوان لونه جلب له خصيصا من وسط أفريقيا .
كان يشبه عنترة لولا قصر قامته , إذن هو يشبه الشنفرى.. نعم تماماً هو يشبه الشنفرى .
هو مهيباً مخيفاً .. يُهاب ولا يَهاب , حتى (أسد الله) عبد الباري علي حينما ينطلق من مقر إقامته في (جثام) عاصمة حكمه ومن موقعه في جبل عيبان ليتطوف في أرجاء المدينة , فيبسط نفوذه أو يقمع تمرداً هنا أوهناك في الشراء, بيحان , أوالسوق كان لا يخاف الا غدف أو الذيب على غنمه .
هو فقط من هاجم مواقع تابعة لأسد الله , ونهب وغنم مدافع (مصنوعة من علب معدنية للسمن) وبعض البوازيك(مصنوعة من أنابيب المياة ومساريب المطر).
زفّ اليه عبد الله خبر المولد فالتقطه غدف ونحته في الذاكرة .
الليلة سيحظى بما تشتهيه نفسه من لحم وسبايا ومرحب محمد .
الليلة هي ليلته كما هي عندهم ليلة البركة في حضرة الصالحين
كل الناس سيحظون بقهوة حليمة غنيهم والفقير .
تباطأت اللحظات , وعقارب الساعة تأبى أن تدور .
تدور رحى اللحظات سحباً لا تسرع ولا تتريث , ويلد الكون شمس المغيب تبكي لظى لحظات الوداع ,
ويمد الكون لسانه ويبتلع الوليد , ويبتلع معها أسرار الليالي وألغاز الظلام ملبياً رغبة البشر في ستر الخبايا وكتمان النوايا . ولايتكشف إلا أذان المغيب ومسابح الذكر والزحف المقدس الى بيوت الله وبرد وكراسي للمصاحف تسجى في الصفوف الأول وآيات تستوطن الألسن ولاتغادر الشفاة .
جنح الليل.. أختزلت صلاة التراويح بفضل سورة الكوثر وأخواتها من قصار السور .
على التو نهض سيدي أحمد ونهض معه كتابه بغلافه الجلدي وأوراقه المهترئة والتي تحوي علوم الدنيا وأسرار الحياة .
أما بقية الأشياء من طيران (دفوف) وغيرها فقد سبقته الى بيت المولد .
يمم وجهه شطر بيت المولد, كان الناس يتجهون جماعات وفرادى من يحمل مصباحاً ومن يهتدي بضوء القمر والذي كان حاضراً يراقب المشهد عن كثب .
جلس سيدي أحمد على مكانه المعتاد وجلس بجانبه بنو عمومته وأمامه كبار الضيوف وضعت الطيران على يمينه . ووعاء مملوء بحبوب الذرة أمامه , الناس لا يعرفون السبب لكنهم يؤمنون أن هناك حكمةً وسراً عجيباً .
أدخنة البخور بدأت تتصاعد في أرجاء المكان تكنس الشياطين وتطرد المردة.
أخذ الناس في تناول أغصان القات بنهم شديد مرددين التراتيل بلا كلل أوملل .
يارسول سلام عليك.........صلوات الله عليك
يا رب صل على محمد......يا رب صل عليه وسلم
مرحبا يا نور عيني,,,,,مرحبا جد الحسين
مرحبا بك يا محمد....مرحبا مرحبا
يس والقرآن الحكيم إنك........
بدأ الناس شيئا .. فشيئا يقتربون من حضرة سيدي عبد القادر الجيلاني .
سرت الكلمات في النفوس سريان الدم والسحر. وراحت القلوب تنعم بالرحيل .
كان المكان يعج بالحضور , وكان الصبية محشورين في الجانب الآخر من المكان .
توقف الشيخ كعادته عن الترديد لبعض الوقت, غادر الصبية المكان وهرعوا الى الخارج يمرحون ويلعبون في دعة وحبور..
حينها أقبل غدف مسرعاً تتخبطه اللهفة والجزع على ليلته التي كان لها وبها يمني النفس ويرغب الهوى .
حينها أغلق الصبية عليه الباب , حاول فتحه .. يا الله لم ينفتح الباب , دفعه بقوة المفجوع ولوعة المحروم
فارتطم الباب في الجدار محدثاً صوتاً وجلبة.
صاح الصبية غدف .. غدف كسر الباب .. غدف.. غدف
نهض أبو عبد الله وهرول مسرعاً الى الأسفل رأى ما حدث.. انتفخت أوداجه.. اشتد غضبه .. اتقد وجهه بالحمرة.
تطاير الشرر من عينيه . التحم بالشياطين وتوحد بالمردة .
لا حت لحظة الانفصام بين الخير والغواية.. الحب والكراهية .. الرحمة والقسوة .. الفضيلة والرذيلة.
أخذ بتلابيبه وجذبه ثم دفعه دفعة أخذ على إثرها يتدحرج من أعلى السلم الخارجي إلى الأسفل
كل جزء في جسمه أخذ نصيبه من الألم والوجع , راح الدم ينزف من وجهه البائس وجسمه المنهك .
لكن جراحات القلب كانت غائرة وأحزان الفؤاد عميقة.
نظر اليه عبد الله.. هاله المشهد . ردد قلبه صدى ما رأى , فاضت عيناه من الدمع ..خجل من زمنه .. وتبرأ من لحظته .
أما غدف فقد احتبس الدمع في عينيه , وغصة تسكن الحنجرة.
عيناه تحملقان في الفضاء... تطلقان قهقهات ساخرة ... صراخات مكلومة ... استغاثات مظلومة تشكي رمد العيون
وانكسارات القلب اليتيم , ينوب القلب عنها في البكاء نجيعاً يتصاعد الى سدرة المنتهى .
توارى غدف في الظلام وخلف حدقات العيون توارت معه دموعه .
أما الناس فما زالوا في حضرة سيدي عبد القادر الجيلاني يلتهمون قهوة حليمة .
الشمس ترسل خيوطاً صفراء.. تصبغ الأرض بلونها.. شمس باهتة, غير محاربة, متصالحة مع الظلام, لاتريد أن تأخذ حقها كاملاً في الظهور. أو كأن الليل يأبى أن يغادر المدينة, فيبقي بعض أزلامه, شعاعها الخافت يرسم الخيبة وينسج الهزيمة.
أشباح ليل لا تريد أن تبارح المكان ..تختفي هنا وهناك, وأكفان موتى تلف كل شيء.
يغمض عينيه عبد الله ..يسكن حدقات العيون في جوف أهدابه , يدفن وجهه في كفيه.. يواري معها سوأة البشر وعورة الزمن القبيح .
يسترسل في نومه لا يريد أن يستيقظ فيكون هذا صباحه وهذا نهاره , جلب قسراً من أزمنة أخرى غير زمانه.. حشر في ثوب ليس من نسيج أمه ولا لون زمانه .
حمام البر ما عاد يعشق الجبال, وجياد الرهبة تجر الخديعة والضياع, خفافيش الليل تقاسم الطيور جوها وماءها وهواءها ونهارها والليل لها وحدها .
رؤوس الشياطين تنبت في المدائن .. تزاحم سنابل الذرة زاد الحياة, أذؤب (ذئاب) تغتصب الورود, وتسرق عبق الزهور.
كل شيء بدا باهتاً, تهاوت الأزمنة في السقوط, وتمادت اللحظات في السكون.
عبد الله يفضل ليلة حالمة على نهار صامت, أدار للخيوط الصفراء ظهره وراح يغط في نومه الحالم.
رمقه أبوه بسهام كأنها الشرر, راح الأب يلف عمامته وكأنه يلف سنوات عمره ..يلف المسافة بينه وبين قبره.
بدأ الأب يتنحنح ويتحفز للنهوض.. توجه نحو ابنه بخطىً مثقلة بعبء السنين .
استهل يومه بتوبيخ ابنه ونعته بكل النعوت .
انتزعه من حضن أحلامه وأحضره إلى زمنه وكأنه رسول الأزمنة الغابرة .
فتح عبد الله إحدى عينيه وقبض على الأخرى .. قام متثاقلاً يندب حظه ويلعن زمانه .
أبو عبد الله - كما كان يحب أن يُـنادَى - طلب من ابنه باعتداد أن يذهب الى سيدي أحمد ليخبره أنه على الموعد ليقيم المولد.
كان يحيي هذا المولد في كل عام. كان ذلك نذر عليه. لم يفشِ سبب النذر, لقد دفنه في صدره ونسيه .
ذات مرة شق جيوب الكتمان وصرح بأنه من أجل حفظ أبنائه, على التو زجره سيدي أحمد.. إفشاء الأمر يذهب البركة.
أنطلق عبد الله ..اختفى بين البيوت القديمة والحارات العتيقة .
راح الأب يجمع قوته وقوت عرسه وأولاده .. يتحضر ويستحضر ما ادخروه في سابق الأيام وسالف الزمان من حبوب وسمن وعسل وثمن للذبيحة ليجودوا بها على سيدي أحمد ومن سيحضر من الصالحين .
كل هذا لا يساوي ما سينالون من الرضى والبركه.. هو أجر كبير وحصن حصين لا تساويه قربى أوعبادة .
الحج فقط لمن أستطاع, أما المولد فهو نذر عليه. وقد سأل العارفين وحذروه من تركه .
تابع عبدالله السير نحو مهمته.. حينما وصل أخذ حجراً وطرق الباب بشدة متناهية.. دوت ضرباته في الفضاء.. تردد صداها في الجبال المسكونة والبقاع المهجورة .
هو لا يطرق باباً هو يطرق جبهة سيدي أحمد.. هو يفرغ حزنه وحنقه, يصب جام غضبه .
لقد فجع في نومه, وقوت أسرته, وتعب أمه في إعداد قهوة حليمة .
أطلت عليه من نافذة صغيرة امرأة في شدة الرجال, وفي حزم وبأس صبت عليه وابلاً من الشتائم .
آه.. فقد النصر الذي تحقق.. ابتلع ريقه وابتلع معه حزنه وهزيمته .
طأطأ رأسه الى الأرض, وفي صوت حانق رماها برسالة الأب .
لم يَـحْـظَ بجواب ..هو أيضا لا يريد أن يسمع, انطلق وهو يركل ما يصادفه من أحجار وعلب فارغة،, حتى حزنه وأوجاعه وهزيمته وكل شيء ..كل شيء ..كل شيء .
قبل أن تسحب رأسها شيعته بما يستحق من اللعنات والشتائم . هو لم يعد يكترث لهذا, صوب خطاه نحو الحميري .
هذه المرة لم يكن شغفه باللعب هو الدافع الوحيد, بل يريد أن يستثمر تعبه وتعب أهله.. يسعى لأن يقبض الثمن.. يريد أن يبدوَ محظوظاً أمام رفاقه .
الحميري يستلقي في حضن القرين.. يداعب أقدام غول المدينة (القلعه) تتكفل منارات الهدى بحراسته ..تحميه من خزي الكلمات وزيف الشفاة .
تحج اليه الصبية من كل حدب وصوب, يبعدهم المكان عن أمواج الوجع ومخافر الزمن العضود.
(غُـدَف) هو أول من صادفه, صبياً منسياً, هو خارج الزمن, لا يعرف له أب أو أم , لا يعرف من الذي أتى به .
جلب من الأزمنة الغابرة بثيابه الرثة وجسمه المهترئ المغطى بطبقة سميكة من الأتربة .
وجهه الحزين يعكس وجع السنين. ملامح وجهه الشاحبة وتقاسيمها أسست لها أيدي الناس وصفعات الزمن .
غير أم صادق لها كل الأجر والرضوان, بسطت له نصف قلبها والفؤاد, ذرفت له نصف الدموع, واقتسمت له الرغيف. ضمت بين جناحيها غبنه ويتم وليدها. منهما الحزن ومنها الدموع, منهما الجوع ولها الوجع .
وجده أقرانه بلا إسم فتبرعوا له بهذا الإسم .
كانت له أذنان جميلتان معقوفتان إلى الأمام , ونصف عينين , الحياة لاتستحق أكثر من ذلك مداها ضيق ومجالها أضيق . ملك الألوان لونه جلب له خصيصا من وسط أفريقيا .
كان يشبه عنترة لولا قصر قامته , إذن هو يشبه الشنفرى.. نعم تماماً هو يشبه الشنفرى .
هو مهيباً مخيفاً .. يُهاب ولا يَهاب , حتى (أسد الله) عبد الباري علي حينما ينطلق من مقر إقامته في (جثام) عاصمة حكمه ومن موقعه في جبل عيبان ليتطوف في أرجاء المدينة , فيبسط نفوذه أو يقمع تمرداً هنا أوهناك في الشراء, بيحان , أوالسوق كان لا يخاف الا غدف أو الذيب على غنمه .
هو فقط من هاجم مواقع تابعة لأسد الله , ونهب وغنم مدافع (مصنوعة من علب معدنية للسمن) وبعض البوازيك(مصنوعة من أنابيب المياة ومساريب المطر).
زفّ اليه عبد الله خبر المولد فالتقطه غدف ونحته في الذاكرة .
الليلة سيحظى بما تشتهيه نفسه من لحم وسبايا ومرحب محمد .
الليلة هي ليلته كما هي عندهم ليلة البركة في حضرة الصالحين
كل الناس سيحظون بقهوة حليمة غنيهم والفقير .
تباطأت اللحظات , وعقارب الساعة تأبى أن تدور .
تدور رحى اللحظات سحباً لا تسرع ولا تتريث , ويلد الكون شمس المغيب تبكي لظى لحظات الوداع ,
ويمد الكون لسانه ويبتلع الوليد , ويبتلع معها أسرار الليالي وألغاز الظلام ملبياً رغبة البشر في ستر الخبايا وكتمان النوايا . ولايتكشف إلا أذان المغيب ومسابح الذكر والزحف المقدس الى بيوت الله وبرد وكراسي للمصاحف تسجى في الصفوف الأول وآيات تستوطن الألسن ولاتغادر الشفاة .
جنح الليل.. أختزلت صلاة التراويح بفضل سورة الكوثر وأخواتها من قصار السور .
على التو نهض سيدي أحمد ونهض معه كتابه بغلافه الجلدي وأوراقه المهترئة والتي تحوي علوم الدنيا وأسرار الحياة .
أما بقية الأشياء من طيران (دفوف) وغيرها فقد سبقته الى بيت المولد .
يمم وجهه شطر بيت المولد, كان الناس يتجهون جماعات وفرادى من يحمل مصباحاً ومن يهتدي بضوء القمر والذي كان حاضراً يراقب المشهد عن كثب .
جلس سيدي أحمد على مكانه المعتاد وجلس بجانبه بنو عمومته وأمامه كبار الضيوف وضعت الطيران على يمينه . ووعاء مملوء بحبوب الذرة أمامه , الناس لا يعرفون السبب لكنهم يؤمنون أن هناك حكمةً وسراً عجيباً .
أدخنة البخور بدأت تتصاعد في أرجاء المكان تكنس الشياطين وتطرد المردة.
أخذ الناس في تناول أغصان القات بنهم شديد مرددين التراتيل بلا كلل أوملل .
يارسول سلام عليك.........صلوات الله عليك
يا رب صل على محمد......يا رب صل عليه وسلم
مرحبا يا نور عيني,,,,,مرحبا جد الحسين
مرحبا بك يا محمد....مرحبا مرحبا
يس والقرآن الحكيم إنك........
بدأ الناس شيئا .. فشيئا يقتربون من حضرة سيدي عبد القادر الجيلاني .
سرت الكلمات في النفوس سريان الدم والسحر. وراحت القلوب تنعم بالرحيل .
كان المكان يعج بالحضور , وكان الصبية محشورين في الجانب الآخر من المكان .
توقف الشيخ كعادته عن الترديد لبعض الوقت, غادر الصبية المكان وهرعوا الى الخارج يمرحون ويلعبون في دعة وحبور..
حينها أقبل غدف مسرعاً تتخبطه اللهفة والجزع على ليلته التي كان لها وبها يمني النفس ويرغب الهوى .
حينها أغلق الصبية عليه الباب , حاول فتحه .. يا الله لم ينفتح الباب , دفعه بقوة المفجوع ولوعة المحروم
فارتطم الباب في الجدار محدثاً صوتاً وجلبة.
صاح الصبية غدف .. غدف كسر الباب .. غدف.. غدف
نهض أبو عبد الله وهرول مسرعاً الى الأسفل رأى ما حدث.. انتفخت أوداجه.. اشتد غضبه .. اتقد وجهه بالحمرة.
تطاير الشرر من عينيه . التحم بالشياطين وتوحد بالمردة .
لا حت لحظة الانفصام بين الخير والغواية.. الحب والكراهية .. الرحمة والقسوة .. الفضيلة والرذيلة.
أخذ بتلابيبه وجذبه ثم دفعه دفعة أخذ على إثرها يتدحرج من أعلى السلم الخارجي إلى الأسفل
كل جزء في جسمه أخذ نصيبه من الألم والوجع , راح الدم ينزف من وجهه البائس وجسمه المنهك .
لكن جراحات القلب كانت غائرة وأحزان الفؤاد عميقة.
نظر اليه عبد الله.. هاله المشهد . ردد قلبه صدى ما رأى , فاضت عيناه من الدمع ..خجل من زمنه .. وتبرأ من لحظته .
أما غدف فقد احتبس الدمع في عينيه , وغصة تسكن الحنجرة.
عيناه تحملقان في الفضاء... تطلقان قهقهات ساخرة ... صراخات مكلومة ... استغاثات مظلومة تشكي رمد العيون
وانكسارات القلب اليتيم , ينوب القلب عنها في البكاء نجيعاً يتصاعد الى سدرة المنتهى .
توارى غدف في الظلام وخلف حدقات العيون توارت معه دموعه .
أما الناس فما زالوا في حضرة سيدي عبد القادر الجيلاني يلتهمون قهوة حليمة .
_________________
زيد عبد الباري سفيان
زيد عبد الباري سفيان