الزبيري.. شاعر الثوار أبو الأحرار اليمنيين
الزبيري
"إذا أردت أن تتحدث عن اليمن فلا بد لك أن تذكر الزبيري.. وإذا أردت أن تتحدث عن الشعر في اليمن فلا بد لك أن تذكر الزبيري أيضا.. وإذا تحدثت عن الثورة اليمنية ولم تتحدث عن الزبيري وشعره فإنك لم تتحدث عن أهم دعائم هذه الثورة؛ فالزبيري شاعر أشعل ثورة اليمن بشعره، وقاد مسيرتها بشعره أيضا، وهو لذلك استحق من مواطنيه أن يلقب بأبي الأحرار وشاعر الثوار". فمن هو الزبيري الذي قال عنه معجم الأدباء الإسلاميين كل هذا؟
في حي بستان السلطان -في مدينة صنعاء- وفي سنة 1910 ميلاديا ولد محمد محمود الزبيري؛ حيث تعيش أسرة الزبيري العريقة التي نبغ فيها عدد من قضاة وعلماء وشعراء المدينة الكبار، مثل جده القاضي والشاعر لطف الباري الزبيري، والقاضي والشاعر المشهور لطف الله بن محمد الزبيري أحد كبار علماء صنعاء، كما كان والده قاضيا مشهورا، وهو نفسه كان كثيرا ما يعرف بالقاضي.
وفي مدينة صنعاء أيضا نشأ الزبيري يتيما فتعلم القرآن وحفظه صغيرا، وكان الناس يحبون سماعه منه لحلاوة صوته، وتنقل في طلب العلم بين الكتاب والمدرسة العلمية والجامع الكبير بصنعاء.. وقد مال في طفولته إلى العزلة والانطواء، وكان يقضي أوقاته بالمطالعة والتأمل في الحياة وفيما حوله؛ فنشأ مرهف الإحساس والشعور، فنظم الشعر وهو دون العشرين.
بداية النضال
كان أول ظهور للزبيري كشاعر عندما ذهب إلى الحج عام 1938م بصحبة الشهيد عبد الله الوزير، ووقف أمام الملك عبد العزيز آل سعود، وألقى قصيدة لم تحفظ المصادر إلا مطلعها:
قلب الجزيرة في يمينك يخفق **** وسنا العروبة من جبينك يشرق
وبقي الزبيري بعدها بمكة المكرمة طالبا للعلم إلى أن رحل عنها إلى مصر سنة 1939م حيث التحق بدار العلوم بالقاهرة، وهناك تعرف على الإمام حسن البنا والمجاهد الجزائري الفضيل الورتلاني فانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وفي ذلك يقول الأستاذ علي ناصر العنسي: "أول تجمع لنا كان ونحن في القاهرة عندما كنا ندرس في الأزهر، وبدأنا الاتصال بالإخوان المسلمين ومنهم الشيخ حسن البنا الذي كان يرى أن اليمن أنسب البلاد لإقامة الحكم الإسلامي الصحيح، وأن المناخ مناسب للإخوان المسلمين ليعملوا فيها. فكان يهتم بنا اهتماما خاصا، ويولي عنايته بشكل أخص لكل من الزبيري والمسمري اللذين كان يعتبرهما شخصيتين متميزتين، ومن هنا بدأت الحركة الوطنية بين الطلاب اليمنيين".
وقد أسس الزبيري وبعض رفاقه في القاهرة أول حركة منظمة لمعارضة الحكم الإمامي في اليمن في سبتمبر عام 1940م تحت اسم "كتيبة الشباب اليمني"..
وفي سنة 1942 قطع الزبيري دراسته عائدا إلى اليمن التي رأى أنها تستحق منه مجهودا كبيرا لإنقاذ البلاد من الأوضاع المتردية والمأساوية التي كانت تكتنف اليمن آنذاك تحت حكم الأئمة من أسرة حميد الدين، وقد صور هذه الحالة قائلا:
ماذا دهى قحطان في لحظاتهم *** بؤس وفي كلماتــهم آلام؟
جهل وأمراض وظلم فـــــا *** دح ومخافة ومجاعة و"إمام"
وعند قدومه إلى اليمن قدم مذكرة للإمام المتوكل يحيى حميد الدين تتضمن مشروعا لإنشاء جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ألقى خطبة في الجامع الكبير بصنعاء؛ وهو ما أغضب الإمام يحيى؛ فكان جزاؤه السجن مع عدد من شباب اليمن الأحرار في سجن "الأهنوم"؛ حيث انصرف للصلاة وتلاوة القرآن والذكر والتأمل وكتابة الشعر...
تنقل وترحال
وعند خروجه من السجن الذي لبث فيه قرابة تسعة أشهر صور الزبيري ذلك الخروج قائلا:
خرجنا من السجن شم الأنوف *** كما تخرج الأُسد من غابها
نمر على شفرات الســيوف *** ونأتي المنيـــة من بابها
ونأبى الحياة إذا دنســـت *** بعسف الطغاة وإرهابهـــا
ولم يجد الزبيري بُدًّا من الالتفاف حول ولي العهد أحمد نجل الإمام يحيى مع كثير من المثقفين الذين رأوا فيه أملا منقذا لهم، لكنهم سرعان ما أدركوا وَهْم ما هم فيه، فخرجوا بدعوتهم الإصلاحية فارين إلى عدن التي كانت متنفسا للأحرار..
وفي عدن بدأت مرحلة جديدة في الكفاح والنضال؛ حيث أسس الزبيري مع رفيق كفاحه أحمد محمد نعمان حزب الأحرار سنة 1944 الذي تحول اسمه إلى "الجمعية اليمانية الكبرى" عام 1946، وأصدر صحيفة "صوت اليمن"، وفوضت الجمعية الإمام حسن البنا في أن يتحدث عنها في كل شأن من الشئون، واستمر الكفاح حتى قيام ثورة 1948م؛ حيث قتل الإمام يحيى حميد الدين، ونصب عبد الله الوزير إماما جديدا لحكم دستوري شرعي، وكان للإخوان المسلمين والفضيل الورتلاني ممثل الإمام البنا في اليمن الدور الرئيسي في هذه الثورة.
ولكن الثورة سرعان ما فشلت، فعاد الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين نجل الإمام المقتول ليبطش بكل رجالات الثورة، وليفتح صنعاء أمام القبائل التي ناصرته للنهب والسلب؛ فغادر الزبيري اليمن، ولم يكن هناك باب من أبواب الدول العربية مفتوح له هذه المرة؛ فذهب إلى باكستان، وهناك التقى وتعرف على شاعر النفس المؤمنة عمر بهاء الدين الأميري الذي كان سفيرا لسوريا في باكستان، وله مع الزبيري مساجلات شعرية لم تطبع إلى الآن.
وما كاد الزبيري يسمع بقيام ثورة يوليو 1952 بمصر إلا وقرر الرحيل إليها؛ حيث بدأ نشاطه مع رفيقه النعمان بتجميع صفوف الطلاب اليمنيين، وامتد نشاطه إلى اليمنيين في السودان على الرغم من المضايقات التي تعرض لها من قبل النظام المصري، وكان الزبيري يلقي القصائد من خلال إذاعة صوت العرب التي كان له دور في تأسيسها، وكان لأحاديثه وقصائده دور كبير في إنقاذ الأحرار داخل المملكة المتوكلية (اسم عرفت به اليمن قبل قيام الثورة) من الإحباط واليأس وعدم إمكانية التغيير، خصوصا بعد سقوط ثورة 1948م التي كانت أملا للأحرار في الخلاص من ظلم وطغيان الإمامة والإنقاذ من الفقر والجهل والمرض، وكان الزبيري رحمه الله يقول: "كنت أحس إحساسا أسطوريا بأنني قادر بالأدب وحده على أن أقوض ألف عام من الفساد والظلم والطغيان".
العودة إلى الوطن
وحين قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م التي أطاحت بالحكم الإمامي استدعى الضباط الثوار الأستاذ الزبيري؛ لعلمهم أن مجيئه ومشاركته في الحكم يضفيان على الحكم شرعية كانوا بحاجة إليها، خصوصا أن الثورة لم تنته من خصومها من الملكيين الذين كان لهم الكثير من الأنصار بسبب الصبغة الدينية التي كانوا يضفونها على أنفسهم، وكانوا يلقون الدعم من الخارج أيضا.
فعاد الزبيري إلى صنعاء، وأُعد له استقبال مهيب لم تحظَ شخصية جماهيرية بمثله، وعين وزيرا للمعارف في حكومة الثورة، ثم نائبا لرئيس الوزراء وعضوا في مجلس الثورة حتى استقال عام 1964م؛ حيث إن التدخلات الخارجية أدخلت اليمن في حرب أهلية، فسارع الزبيري لإصلاح ذات البين بين القبائل، واشترك في مؤتمرات الصلح بين اليمنيين في "كرش" و"عمران"، كما تولى رئاسة مؤتمر "أركويت" بالسودان عام 1964م.
وقد تبين لأبي الأحرار أنه ينفخ في رماد، وأنه لا بد من حماية الثورة من خصومها وأصحابها على السواء، فخرج من صنعاء صبيحة إعلان حالة الطوارئ في البلاد وإعلان الأحكام العسكرية، وكان يقول بأنهم بهذه القوانين يجيزون قتله..
خرج الزبيري وبصحبته بعض رفاقه ومنهم الأستاذ عبد الملك الطيب صاحب كتاب "التاريخ يتكلم" الذي أرخ لتلك الفترة بأمانة علمية، والشيخ عبد المجيد الزنداني (الذي استدعاه الزبيري من القاهرة وقتل الأخير وهو على مقربة منه)، والأستاذ محمد الفسيل، داعيا إلى إنشاء حزب الله، هادفا إلى إيجاد صحوة تصحح المفاهيم الخاطئة التي أوجدتها الملكية والثورة على السواء؛ فقد كان -رحمه الله- يقول: "إن اليمن لن تسترد كرامتها وعزتها إلا يوم يوجد بينها عشرات من المناضلين على الأقل يرضون بالجوع حتى الموت، وبالسجن حتى نهاية العمر، وبخراب البيوت حتى آخر حجر فيها، ويتقدمون إلى العمل الوطني على أساس النصر أو الموت".
اغتيال الضمير الحي
وصل الزبيري إلى برط (شمال صنعاء) ومن هناك وجه رسالته إلى شعب اليمن التي شرح فيها مبادئ حزب الله، ثم بدأ بدعوة القبائل إلى حزب الله ولمّ الشمل، وكانت دعوته عامة للملكيين والجمهوريين. وعاود الزبيري ورفاقه إصدار صحيفة "صوت اليمن" كلسان حال حزب الله، وبدأ الشعب يعلن ولاءه للحزب الجديد بعد الإحباط الذي عم المواطنين وخيبة أملهم في الثورة ورجالاتها؛ مما أقضّ مضاجع الملكيين الذين كانوا على مقربة من الزبيري الذي غزاهم في عقر دارهم، وأقض مضاجع القيادة في صنعاء فراحت تلمزه وحزبه في وسائل إعلامها.. إلى أن عاجلته رصاصات الغدر في إحدى تنقلاته؛ فخر شهيدا وهو يدعو إلى ما آمن به، وكان ذلك في أول نيسان/إبريل سنة 1965م.
وقد ارتجت اليمن، وبكى الناس جميعهم، وحزنوا حزنا عظيما على فراق هذا العلم الشامخ الذي تتجاذبه التيارات الوطنية، وكل يدعي انتماءه إليه، وفق ما روى الشيخ الزنداني.
وقد رحل الزبيري، وكان يعد لعقد مؤتمر وطني للقبائل والعلماء وقادة اليمن في "خمر"؛ فقد كان معروفا بحكمته وقدرته على تجميع الناس على مختلف انتماءاتهم الحزبية أو القبلية؛ يبش في وجوههم، ويستمع إلى آرائهم؛ حتى إن بعض من عرفوه يقولون بأنه من رجالات عصره قلما تجد له نظيرا أحبه خصومه وأصدقاؤه.. غير أن المؤتمر أقيم بعد استشهاده بجهود تلامذته، ومنهم الشيخ عبد الله الأحمر الذي كان يحبه الزبيري حبا شديدا، وكان يقول: "لولا أن الله ساق لنا هذا الشاب ما استطعنا أن نأمر بمعروف أو أن ننهى عن منكر".
بصمات وآثار
وقد ترك الزبيري آثارا وبصمات وأعمالا تدل على عظمته وعلمه وحبه لشعبه، ولم يترك الزبيري قضية عربية أو إسلامية إلا وتحدث عنها شعرا أو نثرا، ولعل من أشهرها قصيدة "عالم الإسلام" التي ألقاها في مؤتمر حاشد في باكستان.
كما اهتم الزبيري في أشعاره بقضية الإسلام الأولى "فلسطين"، وله فيها قصيدته الشهيرة "في سبيل فلسطين"، وله قصيدة مشهورة بعنوان "ثورة"، وهي من أشهر القصائد الحماسية لشاعر الثوار.
وللزبيري مؤلفات كثيرة؛ منها ما طبع، ومنها ما لم يطبع إلى الآن.. نذكر منها 3 دواوين شعر، هي: "صلاة في الجحيم"، و"ثورة الشعر"، و"نقطة في الظلام". ورواية واحدة هي "مأساة واق الواق"، وله عدد من المؤلفات السياسية والرسائل الثقافية؛ منها "الإمامة وخطرها على وحدة اليمن"، و"الخدعة الكبرى في السياسة العربية"، و"مطالب الشعب".
اقرأ مختار ات من شعر الزبيري:
الزبيري
"إذا أردت أن تتحدث عن اليمن فلا بد لك أن تذكر الزبيري.. وإذا أردت أن تتحدث عن الشعر في اليمن فلا بد لك أن تذكر الزبيري أيضا.. وإذا تحدثت عن الثورة اليمنية ولم تتحدث عن الزبيري وشعره فإنك لم تتحدث عن أهم دعائم هذه الثورة؛ فالزبيري شاعر أشعل ثورة اليمن بشعره، وقاد مسيرتها بشعره أيضا، وهو لذلك استحق من مواطنيه أن يلقب بأبي الأحرار وشاعر الثوار". فمن هو الزبيري الذي قال عنه معجم الأدباء الإسلاميين كل هذا؟
في حي بستان السلطان -في مدينة صنعاء- وفي سنة 1910 ميلاديا ولد محمد محمود الزبيري؛ حيث تعيش أسرة الزبيري العريقة التي نبغ فيها عدد من قضاة وعلماء وشعراء المدينة الكبار، مثل جده القاضي والشاعر لطف الباري الزبيري، والقاضي والشاعر المشهور لطف الله بن محمد الزبيري أحد كبار علماء صنعاء، كما كان والده قاضيا مشهورا، وهو نفسه كان كثيرا ما يعرف بالقاضي.
وفي مدينة صنعاء أيضا نشأ الزبيري يتيما فتعلم القرآن وحفظه صغيرا، وكان الناس يحبون سماعه منه لحلاوة صوته، وتنقل في طلب العلم بين الكتاب والمدرسة العلمية والجامع الكبير بصنعاء.. وقد مال في طفولته إلى العزلة والانطواء، وكان يقضي أوقاته بالمطالعة والتأمل في الحياة وفيما حوله؛ فنشأ مرهف الإحساس والشعور، فنظم الشعر وهو دون العشرين.
بداية النضال
كان أول ظهور للزبيري كشاعر عندما ذهب إلى الحج عام 1938م بصحبة الشهيد عبد الله الوزير، ووقف أمام الملك عبد العزيز آل سعود، وألقى قصيدة لم تحفظ المصادر إلا مطلعها:
قلب الجزيرة في يمينك يخفق **** وسنا العروبة من جبينك يشرق
وبقي الزبيري بعدها بمكة المكرمة طالبا للعلم إلى أن رحل عنها إلى مصر سنة 1939م حيث التحق بدار العلوم بالقاهرة، وهناك تعرف على الإمام حسن البنا والمجاهد الجزائري الفضيل الورتلاني فانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وفي ذلك يقول الأستاذ علي ناصر العنسي: "أول تجمع لنا كان ونحن في القاهرة عندما كنا ندرس في الأزهر، وبدأنا الاتصال بالإخوان المسلمين ومنهم الشيخ حسن البنا الذي كان يرى أن اليمن أنسب البلاد لإقامة الحكم الإسلامي الصحيح، وأن المناخ مناسب للإخوان المسلمين ليعملوا فيها. فكان يهتم بنا اهتماما خاصا، ويولي عنايته بشكل أخص لكل من الزبيري والمسمري اللذين كان يعتبرهما شخصيتين متميزتين، ومن هنا بدأت الحركة الوطنية بين الطلاب اليمنيين".
وقد أسس الزبيري وبعض رفاقه في القاهرة أول حركة منظمة لمعارضة الحكم الإمامي في اليمن في سبتمبر عام 1940م تحت اسم "كتيبة الشباب اليمني"..
وفي سنة 1942 قطع الزبيري دراسته عائدا إلى اليمن التي رأى أنها تستحق منه مجهودا كبيرا لإنقاذ البلاد من الأوضاع المتردية والمأساوية التي كانت تكتنف اليمن آنذاك تحت حكم الأئمة من أسرة حميد الدين، وقد صور هذه الحالة قائلا:
ماذا دهى قحطان في لحظاتهم *** بؤس وفي كلماتــهم آلام؟
جهل وأمراض وظلم فـــــا *** دح ومخافة ومجاعة و"إمام"
وعند قدومه إلى اليمن قدم مذكرة للإمام المتوكل يحيى حميد الدين تتضمن مشروعا لإنشاء جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ألقى خطبة في الجامع الكبير بصنعاء؛ وهو ما أغضب الإمام يحيى؛ فكان جزاؤه السجن مع عدد من شباب اليمن الأحرار في سجن "الأهنوم"؛ حيث انصرف للصلاة وتلاوة القرآن والذكر والتأمل وكتابة الشعر...
تنقل وترحال
وعند خروجه من السجن الذي لبث فيه قرابة تسعة أشهر صور الزبيري ذلك الخروج قائلا:
خرجنا من السجن شم الأنوف *** كما تخرج الأُسد من غابها
نمر على شفرات الســيوف *** ونأتي المنيـــة من بابها
ونأبى الحياة إذا دنســـت *** بعسف الطغاة وإرهابهـــا
ولم يجد الزبيري بُدًّا من الالتفاف حول ولي العهد أحمد نجل الإمام يحيى مع كثير من المثقفين الذين رأوا فيه أملا منقذا لهم، لكنهم سرعان ما أدركوا وَهْم ما هم فيه، فخرجوا بدعوتهم الإصلاحية فارين إلى عدن التي كانت متنفسا للأحرار..
وفي عدن بدأت مرحلة جديدة في الكفاح والنضال؛ حيث أسس الزبيري مع رفيق كفاحه أحمد محمد نعمان حزب الأحرار سنة 1944 الذي تحول اسمه إلى "الجمعية اليمانية الكبرى" عام 1946، وأصدر صحيفة "صوت اليمن"، وفوضت الجمعية الإمام حسن البنا في أن يتحدث عنها في كل شأن من الشئون، واستمر الكفاح حتى قيام ثورة 1948م؛ حيث قتل الإمام يحيى حميد الدين، ونصب عبد الله الوزير إماما جديدا لحكم دستوري شرعي، وكان للإخوان المسلمين والفضيل الورتلاني ممثل الإمام البنا في اليمن الدور الرئيسي في هذه الثورة.
ولكن الثورة سرعان ما فشلت، فعاد الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين نجل الإمام المقتول ليبطش بكل رجالات الثورة، وليفتح صنعاء أمام القبائل التي ناصرته للنهب والسلب؛ فغادر الزبيري اليمن، ولم يكن هناك باب من أبواب الدول العربية مفتوح له هذه المرة؛ فذهب إلى باكستان، وهناك التقى وتعرف على شاعر النفس المؤمنة عمر بهاء الدين الأميري الذي كان سفيرا لسوريا في باكستان، وله مع الزبيري مساجلات شعرية لم تطبع إلى الآن.
وما كاد الزبيري يسمع بقيام ثورة يوليو 1952 بمصر إلا وقرر الرحيل إليها؛ حيث بدأ نشاطه مع رفيقه النعمان بتجميع صفوف الطلاب اليمنيين، وامتد نشاطه إلى اليمنيين في السودان على الرغم من المضايقات التي تعرض لها من قبل النظام المصري، وكان الزبيري يلقي القصائد من خلال إذاعة صوت العرب التي كان له دور في تأسيسها، وكان لأحاديثه وقصائده دور كبير في إنقاذ الأحرار داخل المملكة المتوكلية (اسم عرفت به اليمن قبل قيام الثورة) من الإحباط واليأس وعدم إمكانية التغيير، خصوصا بعد سقوط ثورة 1948م التي كانت أملا للأحرار في الخلاص من ظلم وطغيان الإمامة والإنقاذ من الفقر والجهل والمرض، وكان الزبيري رحمه الله يقول: "كنت أحس إحساسا أسطوريا بأنني قادر بالأدب وحده على أن أقوض ألف عام من الفساد والظلم والطغيان".
العودة إلى الوطن
وحين قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م التي أطاحت بالحكم الإمامي استدعى الضباط الثوار الأستاذ الزبيري؛ لعلمهم أن مجيئه ومشاركته في الحكم يضفيان على الحكم شرعية كانوا بحاجة إليها، خصوصا أن الثورة لم تنته من خصومها من الملكيين الذين كان لهم الكثير من الأنصار بسبب الصبغة الدينية التي كانوا يضفونها على أنفسهم، وكانوا يلقون الدعم من الخارج أيضا.
فعاد الزبيري إلى صنعاء، وأُعد له استقبال مهيب لم تحظَ شخصية جماهيرية بمثله، وعين وزيرا للمعارف في حكومة الثورة، ثم نائبا لرئيس الوزراء وعضوا في مجلس الثورة حتى استقال عام 1964م؛ حيث إن التدخلات الخارجية أدخلت اليمن في حرب أهلية، فسارع الزبيري لإصلاح ذات البين بين القبائل، واشترك في مؤتمرات الصلح بين اليمنيين في "كرش" و"عمران"، كما تولى رئاسة مؤتمر "أركويت" بالسودان عام 1964م.
وقد تبين لأبي الأحرار أنه ينفخ في رماد، وأنه لا بد من حماية الثورة من خصومها وأصحابها على السواء، فخرج من صنعاء صبيحة إعلان حالة الطوارئ في البلاد وإعلان الأحكام العسكرية، وكان يقول بأنهم بهذه القوانين يجيزون قتله..
خرج الزبيري وبصحبته بعض رفاقه ومنهم الأستاذ عبد الملك الطيب صاحب كتاب "التاريخ يتكلم" الذي أرخ لتلك الفترة بأمانة علمية، والشيخ عبد المجيد الزنداني (الذي استدعاه الزبيري من القاهرة وقتل الأخير وهو على مقربة منه)، والأستاذ محمد الفسيل، داعيا إلى إنشاء حزب الله، هادفا إلى إيجاد صحوة تصحح المفاهيم الخاطئة التي أوجدتها الملكية والثورة على السواء؛ فقد كان -رحمه الله- يقول: "إن اليمن لن تسترد كرامتها وعزتها إلا يوم يوجد بينها عشرات من المناضلين على الأقل يرضون بالجوع حتى الموت، وبالسجن حتى نهاية العمر، وبخراب البيوت حتى آخر حجر فيها، ويتقدمون إلى العمل الوطني على أساس النصر أو الموت".
اغتيال الضمير الحي
وصل الزبيري إلى برط (شمال صنعاء) ومن هناك وجه رسالته إلى شعب اليمن التي شرح فيها مبادئ حزب الله، ثم بدأ بدعوة القبائل إلى حزب الله ولمّ الشمل، وكانت دعوته عامة للملكيين والجمهوريين. وعاود الزبيري ورفاقه إصدار صحيفة "صوت اليمن" كلسان حال حزب الله، وبدأ الشعب يعلن ولاءه للحزب الجديد بعد الإحباط الذي عم المواطنين وخيبة أملهم في الثورة ورجالاتها؛ مما أقضّ مضاجع الملكيين الذين كانوا على مقربة من الزبيري الذي غزاهم في عقر دارهم، وأقض مضاجع القيادة في صنعاء فراحت تلمزه وحزبه في وسائل إعلامها.. إلى أن عاجلته رصاصات الغدر في إحدى تنقلاته؛ فخر شهيدا وهو يدعو إلى ما آمن به، وكان ذلك في أول نيسان/إبريل سنة 1965م.
وقد ارتجت اليمن، وبكى الناس جميعهم، وحزنوا حزنا عظيما على فراق هذا العلم الشامخ الذي تتجاذبه التيارات الوطنية، وكل يدعي انتماءه إليه، وفق ما روى الشيخ الزنداني.
وقد رحل الزبيري، وكان يعد لعقد مؤتمر وطني للقبائل والعلماء وقادة اليمن في "خمر"؛ فقد كان معروفا بحكمته وقدرته على تجميع الناس على مختلف انتماءاتهم الحزبية أو القبلية؛ يبش في وجوههم، ويستمع إلى آرائهم؛ حتى إن بعض من عرفوه يقولون بأنه من رجالات عصره قلما تجد له نظيرا أحبه خصومه وأصدقاؤه.. غير أن المؤتمر أقيم بعد استشهاده بجهود تلامذته، ومنهم الشيخ عبد الله الأحمر الذي كان يحبه الزبيري حبا شديدا، وكان يقول: "لولا أن الله ساق لنا هذا الشاب ما استطعنا أن نأمر بمعروف أو أن ننهى عن منكر".
بصمات وآثار
وقد ترك الزبيري آثارا وبصمات وأعمالا تدل على عظمته وعلمه وحبه لشعبه، ولم يترك الزبيري قضية عربية أو إسلامية إلا وتحدث عنها شعرا أو نثرا، ولعل من أشهرها قصيدة "عالم الإسلام" التي ألقاها في مؤتمر حاشد في باكستان.
كما اهتم الزبيري في أشعاره بقضية الإسلام الأولى "فلسطين"، وله فيها قصيدته الشهيرة "في سبيل فلسطين"، وله قصيدة مشهورة بعنوان "ثورة"، وهي من أشهر القصائد الحماسية لشاعر الثوار.
وللزبيري مؤلفات كثيرة؛ منها ما طبع، ومنها ما لم يطبع إلى الآن.. نذكر منها 3 دواوين شعر، هي: "صلاة في الجحيم"، و"ثورة الشعر"، و"نقطة في الظلام". ورواية واحدة هي "مأساة واق الواق"، وله عدد من المؤلفات السياسية والرسائل الثقافية؛ منها "الإمامة وخطرها على وحدة اليمن"، و"الخدعة الكبرى في السياسة العربية"، و"مطالب الشعب".
اقرأ مختار ات من شعر الزبيري:
اقرأ مختار ات من شعر الزبيري: