ألغاز 9



تابع ...

وقفت على ما كتبت به وذكرت أن بعض أهل الأدب كلفك المسألة عنه وأعلمتني توجه ظنك في إبانة مشكله وإيضاح سبله وتأملته فوجدته شعرا لا أحب أن أقول في صناعته شيئا مشتملا على ألفاظ من حوشي اللغة لا يتشاغل بمثلها أهل التحصيل ولا يتوفر على طلبها إلا كل ذي تأمل عليل لخروجها عما ينفع في الأديان ويعترض في تفسير القرآن ولمباينتها ما تجري به المذاكرة وتستخدم فيه المحاورةوزاد في عجبي منها صدورها عن النطيحة وفيها من الأستاذ الفاضل أبي القاسم هبة الله بن عيسى أدام الله تأييده بحر الأدب الذي عذبت موارده وشهاب العلم الذي التهبت مطالعه وري العقول الظماءوطب الجهل المستفحل الداءوالباب الذي يفتح عن الدهر تجربة وعلماوالمرآة التي تتصفح بها أوجه الأنام إحاطة وفهما
وبعد فهو الرجل الذي سلم له أهل بلده أنه شعلة الذكاءووارث محاسن الأدباءوملتقى شذان العلوم وقاطع تجاذب الخصوم فإن كان الغرض - في هذه الأبيات الخراب المقفرة من الصواب - طلب الفائدة فقد كان يجب أن يناخ عليه بمثقلها ويقصد إليه بمعضلها فعنده مفتاح كل مسألة مقفلة ومصباح كل داجية مشكلةبل لست أشك أن هذا السائل لو جاوره صامتا عن استخباره وعكف على ذلك الجناب كاتما لما في طي مضماره لأعداه رقة نسيم أرجه وهذب خواطره التقاط فرائد لفظه ولهداه قربه منه من ضلالته ولشفاه دنوه منه من جهالته حتى يغنيه الجوار عن الجور والاقتراب عن رجع الجواب وحتى يعود ملهما ينطق بالحكمة ولو لم يقصد إظهارها ويجيب عن المسائل ولو لم يعرف أصولها واستقرارها
هذا إن كان يريد الفائدةو إن كان قصد الامتحان للمسؤول وتعرض لهذا الموقف المدخول فذلك أعجبكيف لم يتأدب بآدابه الصالحةويعش إلى هدايته الواضحة ويعلم أن هذا خلق أهوج ومذهب أعوج وسجية لا تليق بأهل العلم ولا يؤثر مثلها عن ذوي النظر الصحيح والحزموكيف لم يعلم هذا القريض المتكلف بما أعطاه الله تعالى من سعادة مكاثرته وساق إليه من بركة صحبتهإن .

هذا القريض - كما قال المخزومي لعبد الملك بن مروان وقد لقيه في طريق الحج بعد ما أنكره وكرهه فقال بئست التحية من ابن العم على النأي - وهذا لعمري بئست تحية الغريب من القاطنين ولؤمت هدية الوافد من المقيمينوقد كان حق الغريب أن يكثر قليله ويسدد زيفه ويثبت زلله ويعار من معالي الصفات ما يؤنس غربته ويصدق مخيلته ويعلم أن قد حل على أشباه القعقاع بن شور الذين لا يشقى بهم جليس ولا يذم دخلتهم أنيس ولا يزورهم نازح الدار إلا سلا عن وطنه ولا يسكن إلى قربهم شاك لنبوة الحظ إلا صلح ما بينه وبين زمنه إلى أن يبدوا عن تباينه ويجثوا عما وراء ظهره يأخذوا بعادة أهل الأثر ويحملوا نفوسهم معه على ما في الجواب من الغرر
على أن هذا الطارئ عليهم رجل كان أربه من العلم ما فيه حظ نفسه وتهذيب خلائقه والاقتداء بهذه الآداب الزاكية على تقويم أوده والاستعانة بقليل هذه الحكم المصلحة على إصلاح فكرهم خدوما بالعلم لا خادماومتبوعا بملح غرائب الآداب لا نابعاوعلى أنه لو كان قد احتبى للجدال وركب للنزال وتحدى بعلمه تحدي المعجز وتعرض لكافة العلماء تعرض الواثق المتحرز لما كان في غروب كلماته من حوشي اللغة عن فهمه ما يدل على قصر باعه وقلة متاعه
ويا عجبا للفراغكيف سوغ لهذا المغتر أن يجارى بحلق درعه تقسم أفكاريوكيف أنساه اجتماع شمله بعد دياريوكيف أذهله حضور أحبته عن مغيب أفلاذ كبديوكيف طرفت ناظره سكرة الحظ عن تضور ما يجن خلديوكيف لم يدر ما لي من ألحاظ مقسمة وظنون مرجمة لم والتفات إلى ولد ينتهب الشوق إليه تصبري وينبه الإشفاق عليه حذريوكيف لم يخطر بباله أني قريب عهد بمحل عز وثروة كانا أوحشاني من الأكفاءوخلطاني بين الأعداء والأصدقاء
وقد تكلفت الإجابة عما تضمنته الأبيات انقيادا لمرادك ومقتسرا رأيي على إسعادك أجر أقلامي جرا وهن ثواكل وأنبه قرائحي وهن في غمرات الهموم ذواهل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
قال هذا السائل إن المسؤول دروك لتلك الفتوىومستحق بها الرتبة العليا
فقال شيخ من شيوخنا - عزفته لنا الأيام عن كل فات فوفت وزادت وعوضتناه من كل مخترم فأحسنت وأفادت وكان لحظ الأبيات قبلي ولاءم مشكله في التعجب منها مشكلي أن ( دروكا ) هاهنا لا يجوزلأن فعولا لا يكون من أفعل قال ولو جاز هذا لجاز حسون وجمول ونعوم من أحسن وأجمل وأنعموما نحب استيفاء القول في هذا الزلل ولا نستفتح كلامنا بالمناقشة في هذا السهو الخطلولعل القائل وهم حملا على قراءة حفص في الدرك الأسفل من النار فظن أن الدرك بوزن فعل وأن فعلا مصدر فعل يفعل ولم يجعله من الدرك لأن الفتح عندهم لا يخفف فلا يقولون في جمل جملوذهب عليه أنه قد يكون اسما مبنيا مثله وإن لم يكن مخففا منه كما قالوا دركة ودركة في حلقة الوتر التي تقع في فرض القوس فخففوا وحركوا
وعلى أنهما لو كانا مصدرين لجاز أن يجيئا على الشذوذ ولا يحمل عليهما ما يبنى من الفعللأن الشذوذ ليس بأصل يقاس عليه ولعله اغتر بقولهم دراك ودراك أيضا شاذلأنهم قد نقلوا أفعل يفعل
وهو قليل فقالوا فطرته فأفطر وبشرته فأبشر فجاء على هذا دركته فأدركقال سيبويه وهذا النحو قليل في كلامهم أو لعله ذهب إلى قولهم دراك مثل نزال فظن أنه يقال منه دراك كما يقال مناع ونزال من منع ونزل وذهب عنه أنه قد جاء الرباعي في هذا الباب كما قالوا قرقار وعرعار في معنى قرقر وعرعر فأما الفرق بين الرباعي والثلاثي فهو أن سيبويه يرى إجازة فعال في موضع فعل الأمر في الثلاثي كله ويمنعه في الرباعي إلا مسموعا .




منقول