البداية
بدأت فجيعة عايدة أحمد منذ نحو أربعين عاما . بعد أشهر من زواجها وانتظارها لمولودها الأول والذي اسمته علي.. لكن فرحة عايدة وزوجها بطفلهما الأول لم تستمر حيث اكتشفا انه يعاني من عيب خلقي يحول دون ان يسير على رجليه بشكل طبيعي، عايدة أحمد وزوجها لجآ الى الاستعانة بأطباء شعبيين قدموا علاجات عشبية مختلفة، وقاموا بكي الطفل آنذاك في ظهره دون أن يجدي نفعاً عندما تيقنا من حالة ابنهما الاول . لكنهما لم يعرفا ان علي لن يكون وحده من سيعاني من هذا العيب الخلقي فما إن أنجبت عايدة طفلها الثاني والذي أسمته عبده حتى فجعت هي وزوجها انه يعاني من ذات العيب فانحناءة الظهر كانت واضحة عليه منذ الوضع كما هو حال أخيه علي..!
قالت انها وزوجها الذي توفي منذ سنوات قررا ان ينجبا طفلا ثالث لعل وعسى ان يكون في حالة مختلفة عن أخويه (علي وعبده) لكن القدر شاء ان يكون الابن الثالث لهما وأسمياه صالح مصاب بنفس العيب الخلقي الذي يعاني منه أخواه -علي وعبده-.
أتحمل إعالتهم
تروي الأم عايدة أحمد وتسكن في حي هبرة بمدينة صنعاء تفاصيل فجيعتها ومأساة أبنائها الثلاثة قائلة: إنها أنجبت في ثلاث ولادات منفصلة كلاً من (علي، عبده، صالح) وجميعهم لا يستطيعون ثني ظهورهم باستقامة إطلاقاً، الأمر الذي جعلهم يمشون على أيديهم وأرجلهم معاً، وقد كبروا على هذه الحال، أصغرهم في سن الثلاثين عاماً، وهو (صالح)، فيما أكبرهم يناهز الأربعين.
وأشارت إلى أنها لم يسبق أن عرضت أبناءها على مستشفى تخصصي لفحص حالتهم، لكنها بعد اكتشاف حالة الابن البكر راجعت الكثير جداً من الحكماء أو المداوين الشعبيين، وقدموا علاجات عشبية مختلفة، وقاموا بكي الطفل آنذاك في ظهره دون أن يجدي نفعاً، لذلك لم تكرر التجربة مع ابنيها الآخرين، منوهة إلى أن زوجها توفي منذ زمن بعيد فتحملت هي مسؤولية إعالتهم، والعناية بهم، مؤكدة أنها كابدت معاناة، وآلام لم تمر على بشر من قبلها.
الأقدار
تواصل الأم سرد فصول حكايتها قائلة إن الأقدار لم تمنحها سوى بضعة أشهر للفرح بعد ان تزوجت في العام 1967 حيث اكتشفت أن مولودها البكر (علي) معاق، وأنه لا يستطيع الوقوف بغير وضع الركوع وبالاستناد إلى يديه على الأرض.. وبلوعة قلب الأم، وبحيرة أب كادح في قطعة أرض صغيرة، وفي مجتمع يتناهشه الفقر والمرض والجهل لم تترك هذه الأسرة »مداوي« من الذين يزاولون الطب الشعبي إلاّ وطرقت بابه - لكن دون جدوى.. وها هو مولودها الثاني (عبده) يهل على الدنيا، وقد يشاء الله أن يجعل فيه السلوى، والعزاء للنفس بأخيه الأكبر..
لم تكتمل فرحة عايدة، وزوجها أحمد صالح صغير بالطفل الثاني، إذ أن انحناءة الظهر كانت واضحة منذ الوضع، وقد شاء القدر مجدداً أن ينكب هذه الأسرة بثاني مواليدها..
قررت أم علي وزوجها التوقف عن الإنجاب خوفاً من مأساة ثالثة، وجلسوا على هذه الحال بضع سنوات حتى شاء الله أن تحمل مجدداً منتصف السبعينيات دون أن تحتسب، فأمضت شهور حمل مؤلمة بالخوف والقلق، وشماتة نساء القرية، حتى شاء الله لها أن تضع مولودها الذي كانت قد نذرت تسميته »صالح« قبل أن تلده عسى الله أن يجعل فيه الصلاح، لكن صالح لم يكن ليختلف عن أخويه بشيء فهو معاق أيضاً.
تجرع المر
ثلاثة أبناء ذكور معاقين روت أمهم حكايتهم من غير أن تفارق عيناها الدموع، ومن غير أن تتوقف عن نفث سموم حسراتها ولوعاتها بحرقة، ثم تنفجر منتحبة وهي تخبرنا أن أباهم رحل إلى جوار ربه، ولم يزل أكبرهم في سن العشرين.. فكان أبناؤه يتبعون جنازته وكل منهم يمشي على يديه ورجليه في طابور أثار حزن كل من حضره.
قالت بأنها لا تحب الظهور مع أبنائها كثيراً في شوارع العاصمة صنعاء إلاّ إذا استبد بهم الجوع والعوز وأنها »تجرّعت المر« من أجل تربية أبنائها المعاقين، وتحملت »القهر، والذل« وهي تتوسل الناس حاجتها - خاصة من الطعام، لكونهم »رجال ويأكلون كثيراً وحالتهم لا تساعدهم على أي عمل«.
وتقول انها وأبناءها لم يكونوا يخرجوا إلى خارج حدود منطقتهم »هبرة- ملحان« نظراً لحالتهم وما يتعرضون له من مضايقات الناس والأطفال في الشوارع، لكنها قبل أقل من سنتين اضطرت للخروج بحثاً عن لقمة الخبز من أهل الخير، وبحثاً عن بعض المال الذي يسد عوزها فهيا تقيم في بيت إيجار، ومضطرة لدفع الإيجار كل شهر، وكذلك فواتير الماء والكهرباء..
أم علي وأبناؤها لا يتسولون في الشوارع، ولا يجلسون على الأرصفة ويطلبون الصدقات، بل هم يقصدون أماكن محددة بينها محلات تجارية معينة، ومطاعم، وبيوت - وهي معدودة جداً - وقد تعودوا ارتيادها لأن أصحابها من أهل الخير ويقدمون لهم المساعدة دائماً، والبعض يتفقدهم إذا تأخروا عليهم عدة أسابيع.
اثناء حديث أم علي - اتضح ان اثنين من أبنائها لديهم مشكلة أيضاً في النطق، لكن »علي« الذي تجاوز الأربعين عاماً كان نطقه سليماً.. وقد أخبرنا أنه وأخوته كانوا يشعرون بالضيق عندما يقصدون مركز العاصمة، جراء اختلاف الناس، ونظراتهم، وأحياناً كثر الأسئلة الفضولية من البعض، لكنهم اعتادوا.
ويذكر علي إنهم تعودوا على حياتهم بكل تفاصيلها، وعلى طريقتهم في المشي.. وأنهم يهتمون بنظافة أنفسهم ولا يختلفون عن الناس في الملبس والمأكل، والأذواق، ومشاهدة برامج التلفزيون و»الأفلام الهندية«، لكن مشكلتهم الوحيدة هي عدم قدرتهم على العمل، وظروفهم المعيشية الصعبة جداً.
ويتألم علي لمعاناة أمه، وكفاحها من أجل أن تربيهم وتشقى عليهم.. ويقول أنها «عظيمة« وسيعوضها الله بالجنة، ويتمنى لو كان بيده شيء يستطيع عمله لأجلها لتعويضها القهر والتعب والظلم..!
وبحسب أم علي، فإنها أخبرتنا قبيل المغادرة بقليل بأنها لديها بنتين وولدين أصحاء متعافين، وهم متزوجون بعيداً عنها، وقد أنجبتهم بعد المعاقين الثلاثة بعدة سنوات..
أنهت أم علي سرد حكايتها وغادرت المكان، لكنها تركت في الذاكرة تفاصيل مأساة امرأة بدأت إحساس الأمومة بأمل مذبوح، وخيبة أنثى.. لتنهيها في شوارع صنعاء تجر خلفها قدرها البائس - طابور من رجال يمشون على أربع، لا ترتفع رؤوسهم إلى السماء إلاّ لرجاء الربّ بالوفاء بما وعد رسوله، بأن »الجنة تحت أقدام الأمهات«
لا حول ولا قوة الا بالله
عافانا الله واياكم
بدأت فجيعة عايدة أحمد منذ نحو أربعين عاما . بعد أشهر من زواجها وانتظارها لمولودها الأول والذي اسمته علي.. لكن فرحة عايدة وزوجها بطفلهما الأول لم تستمر حيث اكتشفا انه يعاني من عيب خلقي يحول دون ان يسير على رجليه بشكل طبيعي، عايدة أحمد وزوجها لجآ الى الاستعانة بأطباء شعبيين قدموا علاجات عشبية مختلفة، وقاموا بكي الطفل آنذاك في ظهره دون أن يجدي نفعاً عندما تيقنا من حالة ابنهما الاول . لكنهما لم يعرفا ان علي لن يكون وحده من سيعاني من هذا العيب الخلقي فما إن أنجبت عايدة طفلها الثاني والذي أسمته عبده حتى فجعت هي وزوجها انه يعاني من ذات العيب فانحناءة الظهر كانت واضحة عليه منذ الوضع كما هو حال أخيه علي..!
قالت انها وزوجها الذي توفي منذ سنوات قررا ان ينجبا طفلا ثالث لعل وعسى ان يكون في حالة مختلفة عن أخويه (علي وعبده) لكن القدر شاء ان يكون الابن الثالث لهما وأسمياه صالح مصاب بنفس العيب الخلقي الذي يعاني منه أخواه -علي وعبده-.
أتحمل إعالتهم
تروي الأم عايدة أحمد وتسكن في حي هبرة بمدينة صنعاء تفاصيل فجيعتها ومأساة أبنائها الثلاثة قائلة: إنها أنجبت في ثلاث ولادات منفصلة كلاً من (علي، عبده، صالح) وجميعهم لا يستطيعون ثني ظهورهم باستقامة إطلاقاً، الأمر الذي جعلهم يمشون على أيديهم وأرجلهم معاً، وقد كبروا على هذه الحال، أصغرهم في سن الثلاثين عاماً، وهو (صالح)، فيما أكبرهم يناهز الأربعين.
وأشارت إلى أنها لم يسبق أن عرضت أبناءها على مستشفى تخصصي لفحص حالتهم، لكنها بعد اكتشاف حالة الابن البكر راجعت الكثير جداً من الحكماء أو المداوين الشعبيين، وقدموا علاجات عشبية مختلفة، وقاموا بكي الطفل آنذاك في ظهره دون أن يجدي نفعاً، لذلك لم تكرر التجربة مع ابنيها الآخرين، منوهة إلى أن زوجها توفي منذ زمن بعيد فتحملت هي مسؤولية إعالتهم، والعناية بهم، مؤكدة أنها كابدت معاناة، وآلام لم تمر على بشر من قبلها.
الأقدار
تواصل الأم سرد فصول حكايتها قائلة إن الأقدار لم تمنحها سوى بضعة أشهر للفرح بعد ان تزوجت في العام 1967 حيث اكتشفت أن مولودها البكر (علي) معاق، وأنه لا يستطيع الوقوف بغير وضع الركوع وبالاستناد إلى يديه على الأرض.. وبلوعة قلب الأم، وبحيرة أب كادح في قطعة أرض صغيرة، وفي مجتمع يتناهشه الفقر والمرض والجهل لم تترك هذه الأسرة »مداوي« من الذين يزاولون الطب الشعبي إلاّ وطرقت بابه - لكن دون جدوى.. وها هو مولودها الثاني (عبده) يهل على الدنيا، وقد يشاء الله أن يجعل فيه السلوى، والعزاء للنفس بأخيه الأكبر..
لم تكتمل فرحة عايدة، وزوجها أحمد صالح صغير بالطفل الثاني، إذ أن انحناءة الظهر كانت واضحة منذ الوضع، وقد شاء القدر مجدداً أن ينكب هذه الأسرة بثاني مواليدها..
قررت أم علي وزوجها التوقف عن الإنجاب خوفاً من مأساة ثالثة، وجلسوا على هذه الحال بضع سنوات حتى شاء الله أن تحمل مجدداً منتصف السبعينيات دون أن تحتسب، فأمضت شهور حمل مؤلمة بالخوف والقلق، وشماتة نساء القرية، حتى شاء الله لها أن تضع مولودها الذي كانت قد نذرت تسميته »صالح« قبل أن تلده عسى الله أن يجعل فيه الصلاح، لكن صالح لم يكن ليختلف عن أخويه بشيء فهو معاق أيضاً.
تجرع المر
ثلاثة أبناء ذكور معاقين روت أمهم حكايتهم من غير أن تفارق عيناها الدموع، ومن غير أن تتوقف عن نفث سموم حسراتها ولوعاتها بحرقة، ثم تنفجر منتحبة وهي تخبرنا أن أباهم رحل إلى جوار ربه، ولم يزل أكبرهم في سن العشرين.. فكان أبناؤه يتبعون جنازته وكل منهم يمشي على يديه ورجليه في طابور أثار حزن كل من حضره.
قالت بأنها لا تحب الظهور مع أبنائها كثيراً في شوارع العاصمة صنعاء إلاّ إذا استبد بهم الجوع والعوز وأنها »تجرّعت المر« من أجل تربية أبنائها المعاقين، وتحملت »القهر، والذل« وهي تتوسل الناس حاجتها - خاصة من الطعام، لكونهم »رجال ويأكلون كثيراً وحالتهم لا تساعدهم على أي عمل«.
وتقول انها وأبناءها لم يكونوا يخرجوا إلى خارج حدود منطقتهم »هبرة- ملحان« نظراً لحالتهم وما يتعرضون له من مضايقات الناس والأطفال في الشوارع، لكنها قبل أقل من سنتين اضطرت للخروج بحثاً عن لقمة الخبز من أهل الخير، وبحثاً عن بعض المال الذي يسد عوزها فهيا تقيم في بيت إيجار، ومضطرة لدفع الإيجار كل شهر، وكذلك فواتير الماء والكهرباء..
أم علي وأبناؤها لا يتسولون في الشوارع، ولا يجلسون على الأرصفة ويطلبون الصدقات، بل هم يقصدون أماكن محددة بينها محلات تجارية معينة، ومطاعم، وبيوت - وهي معدودة جداً - وقد تعودوا ارتيادها لأن أصحابها من أهل الخير ويقدمون لهم المساعدة دائماً، والبعض يتفقدهم إذا تأخروا عليهم عدة أسابيع.
اثناء حديث أم علي - اتضح ان اثنين من أبنائها لديهم مشكلة أيضاً في النطق، لكن »علي« الذي تجاوز الأربعين عاماً كان نطقه سليماً.. وقد أخبرنا أنه وأخوته كانوا يشعرون بالضيق عندما يقصدون مركز العاصمة، جراء اختلاف الناس، ونظراتهم، وأحياناً كثر الأسئلة الفضولية من البعض، لكنهم اعتادوا.
ويذكر علي إنهم تعودوا على حياتهم بكل تفاصيلها، وعلى طريقتهم في المشي.. وأنهم يهتمون بنظافة أنفسهم ولا يختلفون عن الناس في الملبس والمأكل، والأذواق، ومشاهدة برامج التلفزيون و»الأفلام الهندية«، لكن مشكلتهم الوحيدة هي عدم قدرتهم على العمل، وظروفهم المعيشية الصعبة جداً.
ويتألم علي لمعاناة أمه، وكفاحها من أجل أن تربيهم وتشقى عليهم.. ويقول أنها «عظيمة« وسيعوضها الله بالجنة، ويتمنى لو كان بيده شيء يستطيع عمله لأجلها لتعويضها القهر والتعب والظلم..!
وبحسب أم علي، فإنها أخبرتنا قبيل المغادرة بقليل بأنها لديها بنتين وولدين أصحاء متعافين، وهم متزوجون بعيداً عنها، وقد أنجبتهم بعد المعاقين الثلاثة بعدة سنوات..
أنهت أم علي سرد حكايتها وغادرت المكان، لكنها تركت في الذاكرة تفاصيل مأساة امرأة بدأت إحساس الأمومة بأمل مذبوح، وخيبة أنثى.. لتنهيها في شوارع صنعاء تجر خلفها قدرها البائس - طابور من رجال يمشون على أربع، لا ترتفع رؤوسهم إلى السماء إلاّ لرجاء الربّ بالوفاء بما وعد رسوله، بأن »الجنة تحت أقدام الأمهات«
لا حول ولا قوة الا بالله
عافانا الله واياكم