الثبات عند المَمات
لابْن الجَوزيّ
في ذكر من ثبت عند الموت
لابْن الجَوزيّ
في ذكر من ثبت عند الموت
هؤلاء انقسموا أقساما فمنهم من رأى أن الجزع مما لا بد منه لا ينفع فصبر ومنهم من أحب أن يذكر بالصبر ويمدح عليه وقد رأينا جماعة من اللصوص عند الصلب لا يجزعون
وروينا أنه لما أخذ بابل الحزمي ليقتل قال له أخوه قد فعلت ما لم يفعله أحد فاصبر صبرا لم يصبر مثله أحد فقال سترى صبري فقطعت يده فأخذ من دمها فمسح بها وجهه فقيل له في ذلك فقال خفت أن يصفر وجهي فيظن أن ذلك جزع
ومنهم من يصبر لئلا يشمت به الأعداء كما قال معاوية عند الموت وقد جلس وتجلد ... وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع ... وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
ومنهم من رأى الثواب فصبر احتسابا ومنهم من كان يؤثر الموت وهؤلاء ينقسمون فمنهم الفلاسفة لعنوا الذين يرون خروج الروح سبب عودها إلى عنصرها فيختارون ذلك
وقد اعتقد جماعة من الباطنية أنهم إذا قتلوا ظلما دخلوا الجنة فهم يؤثرون القتل ولا يستوحشون من الموت
ومنهم قوم خافوا الفتن فآثروا الموت كما قال أبو هريرة من رأى الموت يباع فليشتره لي
وقالت عابدة أحب الموت مخافة أن أجني على نفسي جناية يكون فيها عطبي
ومنهم من جرت له خطايا فآثر عقاب النفس على ما جنت كما قال أبو طلحة خذ مني لعثمان حتى ترضى وكما سلم ماعز نفسه إلى الرجم والغامدية
وقال بعض السلف عند الموت يخاطب نفسه اخرجي فوالله لخروجك أحب إلي من بقائك في بدني
ومنهم قوم أحبوا الموت اشتياقا إلى الله عز وجل وعلموا أن الموت هو السبيل إلى ذلك
قال أبو الدرداء أحب الموت اشتياقا إلى ربي
وقالت رابعة العدوية لقد طال علي الأيام والليالي بالشوق إلى لقاء الله عز وجل
وقد جزع أقوام عند الموت لأسباب منها غلبة الخوف عليهم إما لذنوب أو لتقصير أو لمجرد هيبة ما يلقون إلا أنه ينبغي أن يرجع عند الموت حسن الظن والرجاء
ذكر ما نقل من الثبات عند الموت عن آدم عليه السلام
أخبرنا ابن الحصين قال أخبرنا ابن المذهب قال أخبرنا أحمد بن جعفر قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني هدبة بن خالد قال حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عتي قال
رأيت شيخا بالمدينة يتكلم فسألت عنه فقالوا هذا أبي بن كعب فقال إن آدم لما حضره الموت جاءته الملائكة فعرفتهم حواء فلاذت بآدم فقال إليك عني فإني إنما أتيت من قبلك حلي بيني وبين رسل ربي تبارك وتعالى فقبضوه
ذكر ما نقل من ذلك عن إدريس عليه السلام
قال وهب بن منبه سأل إدريس ملك الموت أن يقبض روحه فذاق الموت ثم أعيد إليه روحه ثم رفع إلى السماء
ذكر ما نقل من ذلك عن إبراهيم عليه السلام
أخبرنا محمد بن ناصر قال أخبرنا جعفر بن أحمد قال أخبرنا أبو علي بن المذهب قال أخبرنا أحمد بن جعفر قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثنا الصلت بن مسعود قال حدثنا جعفر بن سليمان قال حدثنا أبو عمران الجوني عن عبدالله بن رباح الأنصاري عن كعب قال
قيل لملك الموت تلطف بابراهيم فآتاه وهو عنب له في صورة شيخ كبير لم يبق منه شيء فأخذ ابراهيم مكيالا فقطف له من العنب ثم وضعه بين يديه فجعل يمضغ ويريه أنه يأكل ويمجه على لحيته وصدره فعجب ابراهيم فقال ما أبقت السن فيك شيئا كم أتى لك فحسب مدة ابراهيم فقال إن لي كذا وكذا فقال إبراهيم قد أتى لي مثل هذا وإنما أنتظر أن أكون مثلك اللهم اقبضني إليك فطابت نفس ابراهيم عن نفسه وقبض ملك الموت نفسه على تلك الحال
ذكر ما نقل من ذلك عن اسحاق عليه السلام
لما خرج ابراهيم باسحاق عليهما السلام ليذبحه عارضه إبليس فقال إنه يريد أن يذبحك فقال لم قال زعم أن ربه أمره بذلك قال فليفعل ما أمره به ربه فسمعا وطاعة فلما قال له الخليل إني أرى في المنام أني أذبحك قال يا أبه اشدد رباطي حتى لا أضطرب واكفف عني ثيابك لئلا ينتضح عليها من دمي فتراه أمي واضجعني على وجهي لئلا ترى وجهي فتدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله في فتخون وأسرع مر السكين على نحري ليكون أهون للموت علي
ذكر ما نقل من ذلك عن يوسف عليه السلام
لما قدم يعقوب عليه السلام على يوسف مصر أقام معه في أهنئ عيش تسعة عشر سنة فلما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يحمله إلى الشام فيدفنه عند أبيه اسحاق ففعل به ذلك ثم إن يوسف علم أن الدنيا لا تدوم وتاق إلى الجنة فتمنى الموت
قال ابن عباس لم يتمن الموت نبي قبله فقال رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث إلى قوله توفني مسلما
وكان ابن عقيل يقول ما تمنى الموت وإنما سأل أن يموت على صفة والمعنى توفني مسلما
داود عليه السلام
أخبرنا ابن الحصين قال أخبرنا ابن المذهب قال أخبرنا أحمد بن جعفر قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا قتيبة قال حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
كان داود النبي صلى الله عليه وسلم فيه غيرة شديدة وكان إذا خرج أغلق الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع فخرج ذات يوم وقد غلقت الأبواب فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة والله ليفضحن فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود من أنت قال أنا الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع منه الحجاب قال فأنت إذن ملك الموت مرحبا بأمر الله فرمل داود مكانه حيث قبضت نفسه اسناده جيد قوى رجاله ثقات
ذو القرنين
أنبأنا يحيى بن ثابت قال حدثنا أبي قال أخبرنا علي أبو الحسن بن الحسين بن دوما قال أخبرنا مخلد بن جعفر البافرحي قال أخبرنا الحسن بن علي القطان قال أخبرنا اسماعيل بن عيسى العطار قال حدثنا أبو حذيفة اسحاق بن بشر عن عبدالله بن زياد قال
حدثني بعض من قرأ الكتاب أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها بلغ أرض بابل فمرض مرضا شديدا أشفق أن يموت فكتب إلى أمه يا أماه هل وجدت لشيء قرارا باقيا وخيالا دائما إني قد علمت يقينا أن الذي أذهب إليه خير من مكاني
وفي رواية أنه كتب إليها اصنعي طعاما واجمعي من قدرت عليه ولا يأكل من طعامك من أصيب بمصيبة ففعلت فلم يأكلوا فعلمت ما أراد فقالت من يبلغك عني إنك وعظتني فاتعظت وعزيتني فتعزيت فعليك السلام حيا وميتا
رجل مؤمن من كبار القدماء
أخبرنا هبة الله بن محمد قال أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن جعفر قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاما فأعلمه السحر فدفع إليه غلاما فكان يعلمه السحر وكان بين الساحر والملك راهب فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه فكان إذا أتى الساحر ضربه وقال له ما حبسك وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا ما حبسك فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى ذات يوم على دابة فظيعة عظيمة وقد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا فقال اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى لك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ورماها فقتلها ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك فقال أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي فكان الغلام يبرئ الأكمه وسائر الأدواء ويشفيهم وكان للملك جليس فعمي فسمع به فآتاه وأتى بهدايا كثيرة فقال اشفني ولك ما ها هنا فقال ما أنا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل فإن آمنت به دعوت الله شفاك فآمن فدعا الله فشفاه ثم أتى الملك فقال له من رد عليك بصرك فقال ربي فما زال يعذبه حتى دل على الغلام فأتى به فلما أراد قتله قال إنك لن تستطيع قتلي حتى تفعل ما آمرك تجمع الناس في صعيد ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي ثم قل بسم الله رب الغلام ففعل فمات الغلام فقال الناس آمنا برب الغلام
أرسطا وهو من علماء الفلاسفة القدماء 384 322 ق م
قد كانت الفلاسفة تؤثر الموت لأن علمهم دعاهم إلى أن ما بعد الموت خير للنفس
هذا وعلمهم غير صادر عن النبوات قال ابن عقيل الفلسفة حدس قد يوافق الإصابة وقد يخطئ والنبوة حق تصيب ولا تخطئ وفرق بين من كان مصدره حدسا وبين من كان مصدره وحيا
ونقلت من خط ابن عقيل قال حضرت أرسطا الوفاة فرأى تلاميذه ما هو فيه من غير أن يكون كربا لذلك فسألوه عن كونهم في حزن وهو في سرور فقال ثقة مني بالروح بعد الموت قالوا وما سبب الثقة فقال أخبروني أموقنون أنتم بفضل الفلسفة قالوا لولا علمنا بفضلها ما اقتبسناها فقال أذلك الفضل في الدنيا أم في الآخرة قالوا إذا أقررنا بفضل الفلسفة ورأينا غير أهلها في الدنيا أفضل عيشا من أهلها فقد اضطرنا الرأي إلى أن نوجب ذلك الفضل لأهلها في الآخرة قال فإنكم إن كرهتم الموت الذي هو السبب لكم في الآخرة فقد كرهتم المنزلة التي فيها الفضل لكم ورضيتم المنزلة التي فيها الضرر عليكم ثم إنكم حقا أن تنتظروا ما هذا الموت المكروه عند العامة هل يجدونه غير مفارقة الروح الجسد قالوا لا قال فهل يسركم ما أدركتم من العلم قالوا نعم قال فبماذا تنالون العلم بالجسد أم بالروح قالوا بحياة الروح وأن البطيء عنه ثقل قال فإذا كان قد استبان لكم أن العلم ثمرة الروح وأن البطيء عنه ثقل الجسد وكنتم بدرك العلم مسرورين وبقوته محزونين لقد اضطركم الرأي إلى إيثار مفارقة الروح الجسد إذ قد بان لكم أن مفارقة الروح الجسد أفضل لكم من ملازمته إياه ألستم ترون شهوات الجسد من النساء والبنين وفضول المطاعم مضرة بالفلسفة التي معناها صب الحكمة وإنكم لم تجعلوا تلك الأمور إلا صيانة للعقل ورغبة في العلم قالوا بلى قال فإذ أقررتم أن هذه اللذات المقوية للأجساد مفسدة للعقول فقد التزمتم أن الأجساد التي هي قابلة لهذه اللذات أفسد قالوا لقد اضطرنا الرأي إلى تحقيق ما مضى من قولك وكيف لنا أن نجترئ من الموت على ما اجترأت عليه ونزهد في الحياة كما زهدت قال إني مجهد نفسي في الصدق فأجهدوا أنفسكم في الفهم إن الفيلسوف قد رضي من الدنيا مالا تراد الدنيا له واحتمل من نصب الفلسفة ما لا يرح منه إلا الموت فما حاجة من لا يتمتع بشيء له من الحياة إلى الحياة وما هرب من لا راحة له إلا في الموت من الموت ولقد جهل من ظن أن له إليها من التنعم والتلذذ سبيلا ومن حرم نفسه لذة إليها واحتمل مؤنة الفلسفة لا ينفي ثوابها بعد الموت ثم ألقى حزينا عند الموت فقد عرض نفسه لأن نضحك منه ومن أحق بأن نضحك منه من ناصب غرس أو باني قصر يوجد محزونا حين تم له منها الذي أمله
ذكر ملك من قدماء الملوك
ذكر أن بعض قدماء الملوك احتضر فجمع أولاده وقال قد أطل علي مالا يهرب منه ولا بد للحي منه وهو الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء وليس يشق علي ذلك فإني كنت منتظرا لذلك على طول دهري ومستعدا له بجهدي وقد ألقى الحكماء ليس من الحكمة أن يحذر الإنسان ما يتيقن وقوعه وكذلك قالوا إن من يرث مقامه نجا أولاده فليس من محكم الأموات وأنا وإن يئست من العود إليكم فقد علمتم لحاقكم بي حقا فإياكم والبخل فإنه يكسبكم في أعين الناس حقارة وإن الإحسان يزيد في صداقة الأصدقاء وينقص من عداوة الأعداء وإياكم ومخالطة الأشرار وأطيعوا أكابركم واحرصوا ألسنتكم لتبقى أسراركم مصونة ولا تؤثروا المال على الذكر الحسن فإن المال فان والذكر باق
ذكر ما نقل من الثبات عند الممات
عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
أخبرنا اسماعيل بن أحمد قال أخبرنا أبو الحسين بن النقور قال أخبرنا محمد بن عبدالرحمن المخلص قال أخبرنا أبو بكر بن سيف السجستاني قال أخبرنا السري بن يحيى قال حدثنا شعبة بن إبراهيم التيمي قال حدثنا سيف بن عمر التميمي عن الوليد بن كعب عن أبيه عن علي عليه السلام قال
طلب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمرضه فقال يا أبا بكر هو إسلاء لأهلي أن يمرضوني وقد وقع أجرك على الله عز وجل
وحدثنا سيف عن بشر بن الفضل عن سالم عن أبيه قال
جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إئذن لي أن أمرضك وأكون الذي أقوم عليك فقال يا أبا بكر إني إن لم أحمل أزواجي وبناتي وأهل بيتي علاجي ازدادت مصيبتي عليهم عظما وقد وقع أجرك على الله تعالى
أخبرنا هبة الله بن محمد قال أخبرنا الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن جعفر قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا اسماعيل قال أخبرنا أيوب عن ابن أبي مليكه قال قالت عائشة رضوان الله عليها
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ويومي فأخذت أدعو الله عز وجل بدعاء كان يدعو له به جبريل عليه السلام وكان هو يدعو به إذا مرض فلم يدع به في مرضه ذاك فرفع بصره إلى السماء وقال الرفيق الأعلى انفرد بإخراجه البخاري
المادة منقوله