علــم الفلك: تفسير آيات القرآن في الكون
د. أسامة عبدالله خياط
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه:
إن للعلوم الكونية ـــ كما هو الشأن تماماً في شقيقاتها من علوم الدين ـ دوراً فاعلاً ومؤثراً في خدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، والإسفار عن وجه جلالهما وجمالهما وبيان هديهما وشرائعهما كما أمر الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
ذلك أن العلم الصحيح في هذا الدين رديف الوحي في تثبيت الهدى، تحقيقاً لوعد الرب جل وعلا بجعل آياته في الآفاق والأنفس عاملاً من عوامل بيان الحق، وترسيــخ اليقين: }سَنــُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتــَّى يَتَبَـيَّنَ لَهُمْ أَنـَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبـِّكَ أَنـَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ{ سورة فصلت: 53. وإن من أهم هذه العلوم الخادمة للكتاب والسنة: علم (الفـلك) أو علم (الهيئة) كما كان يسميه الأقدمون، مما هو معلوم مشهور في تراثنا العلمي الإسلامي الغابر.
الفـلك ومفهـــومه:
ويراد بعلم الفلك Astronomy ذلك العلم الذي (يدرس الكون بما فيه من أجرام سماوية وظواهر كونية)(1).
وهذا المصطلح يقصد به عند أسلافنا القدمـاء: الجانب العلمي المرتكز أساساً على (الأرصـاد) و (الملاحظات) ؛ فهو إذن مشابه ـ بصفة قوية ظاهرة ـ علم الفلك في زماننا الحاضر. مع ملاحظة أن علم الفلك المعاصر أدق وأوضح من علم الهيئة القديم.
مــادة هـــذا العلم:
المادة الأساسية لعلم الفلك: هي هذه السماء وأجرامها المختلفة، وكذلك: الظواهر الكونية الأخرى. فهي إذن مادة علمية محضة تقوم في الأساس على: (الأرصاد الفلكية) و (الملاحظات التي يلاحظها العلماء الفلكيون) إما بالعين المجردة، أو بمعاونة الأجهزة العلمية المعروفة. ولا يقف اهتمام علماء الفلك عند مجرد الرصد لهذه الأجسام بل يتعدى ذلك إلى محاولة الإجابة على أسئلة من مثل: مم تتكون النجوم؟ وكيف ينتج ضوؤها. ولذلك يعد معظم هؤلاء العلماء (فيزيائيين فلكيين).
فــــروعه:
لقد تفرع عن هذا العلم الرئيس ـ في العصرالحاضر ـ حشد من الفروع العلمية المتخصصة تخصصاً دقيقاً في فرع أو نوع من فروع وأنواع هذا العلم. وذلك مثل:
1) علم الفيزياء الفلكية: Astrophysics وهو العلم المختص بدراسة الظواهر والصفات الفيزيائية لأجرام السماء.
2) علم القياسات الفلكية: Astrometry وهو مختص بقياسات مواقع النجوم والأجرام في قبة السماء.
3) علم الفلك الراديوي وهو مختص بدراسة (الأمواج الراديوية) المنبعثة من الأجرام السماوية.
4) علم الفلك بالأشعة تحت الحمراء
5) علم الفلك بالأشعة فوق البنفسجيـة وبأشعة (جـاما) وبالأشعة السينية
6) علم الكونيات Cosmology وهو مختص بدراسة والبحث في أصل الكون، وبنيته، وعناصره.
7) علم الكوسموجوني Cosmogony، وهو علم تاريخ الفلك ويشمل التصورات الفلكية عند الأمم ويمكن اعتباره علم الهيئة القديم.
وهذان العلمان الأخيران وإن كانا علمين مستقلين، إلا أنه يمكن إضافتهما إلى فروع علم الفلك لاشتراكهما مع علم الفلك في مادته التي هي السماء وأجرامها المختلفة كما سلف.
كما أن من الجدير التنبيه إليه أن معظم هذه الفروع العلمية التي تفرعت عن هذا العلم إنما انبثقت عنه خلال هذا القرن الذي نعيش أيامه، ولم تكن معروفة من قبل.
التنجيـــــم:
كثيراً ما يقترن بعلم الفلك ويصاحبه ويخالطه اصطلاح آخر هو (التنجيم)Astrology .
وقد كان له عند الأقدمين من أسلافنا تسمية محددة مشهورة مذكورة، هي: (علم الأحكام) أو (علم أحكام النجوم) أو (علم النجوم الأحكامي).
والأول من هذه التسميات هو أكثرها وأشهرها استعمالا. ووصفه بالعلم Science خطأ محض، كما سيأتي بيانه قريبا.
والتنجيم ـ في لغة العرب ـ مشتق من النجوم والنظر فيها، ويعبر بالنجم عن (الوقت المضروب)(2). ومنه (المنجم)، (المتنجم) و (النجام) وهو (من ينظر فيها ـ أي في النجوم ـ بحسب مواقيتها وسيرها في طلوعها وغروبها)(3).
وقولهم: (نظر في النجوم: فكر في أمر ينظر كيف يدبره)(4).
والتنجيم باعتباره مصطلحاً هو: (التطلع إلى معرفة الغيب من خلال النظر في النجوم)(5).
ويعرفه صاحب (كشف الظنون) بأنه (الاستدلال بالتشكيلات الفلكية من أوضاعها وأوضاع الكواكب ـ القابلة، والمقارنة، والتسديس، والتربيع (6) ـ على الحوادث الواقعة في عالم الكون والفساد في أحوال الجو والمعادن والنباتات والحيوان)(7).
وخلاصة ما يمكن قوله في هذا المقام أن كل ما يبحث فيه هذا (العلم)؟! لا يعد في الحقيقة علماً Science بالمعنى الاصطلاحي المعروف للعلم، بل هو حديث خرافة، ولا صلة له بالعلم من قريب ولا بعيد. وهي أي: (الخرافة) ـ في لغة العرب ـ مشتقة من (الخَرَف) وهو: (فساد العقل من الكبر)(.
وتعريفها علميا: (اعتقاد أو فكرة لا تتفق مع الواقع الموضوعي بل تتعارض معه)(9).
ولذا جاء رفض هذا الدين ـ كتاباً وسنة ـ لهذا الفرع من الفروع الناظرة إلى السماء بقصد الربط بينها وبين ما يحدث على الأرض من وقائع وأحداث.
فأوضح الكتاب العزيز في بيان محكم، وتبيين دقيق، وإيضاح جلي أن الغيب لا يعلمه إلا الله: (قُل لا يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشـْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل: )65.
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شىْءٍ قَدِير(ٌ{ النحل: 77. }وَعِنـْدَهُ مَفَاتِـحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُو)َ( الأنعام: )59.
وأمر سبحانه نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يعلن على الملأ أنه لا يعلم الغيب: }قُل لا أمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرٌّا إِلا مَا شـَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخيْرِ وَمَا مَسَّنِى السُّوءُ إِنْ أَنـَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنــُونَ{ الأعراف: 188.
وجاء في صحيح السنة الشريفة التحذير الشديد من التردي في وهدة الخرافة في بيان نبوي رفيع. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)(10).
وفي هذا تصريح بأن التنجيم من السحر ؛ والله تعالى يقول: }وَلا يُفْلِـحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أتَى{ طه: 69.
وفي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوما)(11). وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)(12).
و (العراف) كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: (اسم للكاهن والمنجم والرمّال ونحوهم كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف.. والمنجم يدخــل في اسم العرّاف)(13).
ويقول رحمه الله: (فقد تبين: تحريم الأخذ بأحكام النجوم علماً وعملاً من جهة الشرع، وقد بينا من جهة العقل أن ذلك أيضاً متعذر في الغالب لأن أسباب الحوادث وشروطها وموانعها لا تضبط بضبط حركة بعض الأمور، وإنما تتفق الإصابة في ذلك إذا كان بقية الأسباب موجودة، والموانع مرتفعة لا أن ذلك عن دليل مطرد لازماً أو غالبا)(14).
ويتحدث العلامة ابن خلدون عن أضرار هذه الصناعة في العمران الإنساني بما يمكن تلخيص مقاصده في النقاط التالية:
1 ـ (تبعث في عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقاً لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيق، فيلهج بذلك من لا معرفة له ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها وليس كذلك، فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها.
2 ـ ثم ما ينشأ عنها كثيراً في الدول من توقع القواطع، وما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء المتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة وقد شاهدنا من ذلك كثيرا)(15).
فيتلخص من كل ما تقدم أن هذا (التنجيم ليس علماً ولا علاقة له بالعلم) أما سبب اقترانه بعلم الفلك فلأنهما مشتركان في المادة الأساسية لكل منهما وهي هذه السماء بأجرامها وظواهرها الكونية المختلفة.
مظاهر العناية الإسلامية بعلم الفلك وبواعثه:
أما علم الفلك، فقد حظي بعناية أهل الإسلام منذ عهد بعيد ؛ ولا غرابة في ذلك ؛ إذا علم أن القرآن الحكيم أورد جملة وافرة وعدداً كبيراً من الآيات المتعلقة بالكون والفلك. وإن كان المقصود الأساس منها هو: الهداية للتي هي أقوم.
وتتجلى مظاهر العناية القرآنية بالفلك في الأمور التالية:
1 ـ التأكيد على (السماء) و (الكون) بما يفوق التركيز على (الإنسان)، فمن ذلك قوله سبحانه: }أأنْتـُمْ أَشـَدُّ خَلْقًا أمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا*رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا*وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا{ النازعات 27 ـ 29.
وقوله عز اسمه: (لَخـَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النــَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النــَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) غافر: 57 والآي
2 ـ ورود (مفردات فلكية) كثيرة في القرآن.
فلفظ (السماء) و (السموات) ورد في القرآن 310 مرة. ولفظ (الشمس) 33 مرة. ولفظ (القمر) 27 مرة. ولفظ (النجم)، (النجوم) 13 مرة.
3 ـ تسمية بعض سور القرآن بـ (أسماء فلكية) و(ظواهر كونية) من مثل: (القمر، النجم، الشمس، المعارج، التكوير، الانفطار، البروج، الانشقاق..).
4 ـ ورود تلك الآيات الداعية إلى النظر في السماء والتفكر في بنائها المحكم، ومحتوياتها المذهلة، وإلى النظر والتفكر أيضاً في الظواهر الكونية المختلفة ؛ مثل قوله عز شأنه: }أوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلــَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ وَأَنْ عَسَى أن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلــُهُمْ{ الأعراف: 185.
(أَفَلَمْ يَنـْظــُرُوآ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنـَيْـنَاهَا وَزَيَّنــَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ{ سورة ق: 6، }إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللــَّيْلِ وَالنــَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِى الألْبَابِ*الـَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللــَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنــُوبِهِمْ وَيَتَفَـكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبـَّـنـَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النــَّارِ{ آل عمران: 190، 191، }أَفَلا يَنـْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ{ الغاشية: 17، 18، }هُوَ الـَّـذِى جَعَلَ الشـَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( يونس: )6.
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً لا يمكن حصرها في مثل هذا المقال الوجيز.
ولا ريب أنه كان لهذه الآيات أبلغ الآثار في نفوس الفلكيين المسلمين، فأقبلوا عليها دارسين وباحثين في دقائقها، غواصين في بحار معانيها، ملتقطين عجائب لآلئها، موجهين الأنظار إلى ما حوته من إعجاز علمي بين.
ولهذا لم يكن عجباً أن يعد كثير من العلماء والباحثين (16) بحق علم الفلك كله تفسيراً لهذه الآيات القرآنية الكونية وبياناً لما تضمنته من إعجاز علمي شهدت ولا تزال تشهد به الحقائق العلمية التي أذهلت العالم !
د. أسامة عبدالله خياط
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه:
إن للعلوم الكونية ـــ كما هو الشأن تماماً في شقيقاتها من علوم الدين ـ دوراً فاعلاً ومؤثراً في خدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، والإسفار عن وجه جلالهما وجمالهما وبيان هديهما وشرائعهما كما أمر الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
ذلك أن العلم الصحيح في هذا الدين رديف الوحي في تثبيت الهدى، تحقيقاً لوعد الرب جل وعلا بجعل آياته في الآفاق والأنفس عاملاً من عوامل بيان الحق، وترسيــخ اليقين: }سَنــُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتــَّى يَتَبَـيَّنَ لَهُمْ أَنـَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبـِّكَ أَنـَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ{ سورة فصلت: 53. وإن من أهم هذه العلوم الخادمة للكتاب والسنة: علم (الفـلك) أو علم (الهيئة) كما كان يسميه الأقدمون، مما هو معلوم مشهور في تراثنا العلمي الإسلامي الغابر.
الفـلك ومفهـــومه:
ويراد بعلم الفلك Astronomy ذلك العلم الذي (يدرس الكون بما فيه من أجرام سماوية وظواهر كونية)(1).
وهذا المصطلح يقصد به عند أسلافنا القدمـاء: الجانب العلمي المرتكز أساساً على (الأرصـاد) و (الملاحظات) ؛ فهو إذن مشابه ـ بصفة قوية ظاهرة ـ علم الفلك في زماننا الحاضر. مع ملاحظة أن علم الفلك المعاصر أدق وأوضح من علم الهيئة القديم.
مــادة هـــذا العلم:
المادة الأساسية لعلم الفلك: هي هذه السماء وأجرامها المختلفة، وكذلك: الظواهر الكونية الأخرى. فهي إذن مادة علمية محضة تقوم في الأساس على: (الأرصاد الفلكية) و (الملاحظات التي يلاحظها العلماء الفلكيون) إما بالعين المجردة، أو بمعاونة الأجهزة العلمية المعروفة. ولا يقف اهتمام علماء الفلك عند مجرد الرصد لهذه الأجسام بل يتعدى ذلك إلى محاولة الإجابة على أسئلة من مثل: مم تتكون النجوم؟ وكيف ينتج ضوؤها. ولذلك يعد معظم هؤلاء العلماء (فيزيائيين فلكيين).
فــــروعه:
لقد تفرع عن هذا العلم الرئيس ـ في العصرالحاضر ـ حشد من الفروع العلمية المتخصصة تخصصاً دقيقاً في فرع أو نوع من فروع وأنواع هذا العلم. وذلك مثل:
1) علم الفيزياء الفلكية: Astrophysics وهو العلم المختص بدراسة الظواهر والصفات الفيزيائية لأجرام السماء.
2) علم القياسات الفلكية: Astrometry وهو مختص بقياسات مواقع النجوم والأجرام في قبة السماء.
3) علم الفلك الراديوي وهو مختص بدراسة (الأمواج الراديوية) المنبعثة من الأجرام السماوية.
4) علم الفلك بالأشعة تحت الحمراء
5) علم الفلك بالأشعة فوق البنفسجيـة وبأشعة (جـاما) وبالأشعة السينية
6) علم الكونيات Cosmology وهو مختص بدراسة والبحث في أصل الكون، وبنيته، وعناصره.
7) علم الكوسموجوني Cosmogony، وهو علم تاريخ الفلك ويشمل التصورات الفلكية عند الأمم ويمكن اعتباره علم الهيئة القديم.
وهذان العلمان الأخيران وإن كانا علمين مستقلين، إلا أنه يمكن إضافتهما إلى فروع علم الفلك لاشتراكهما مع علم الفلك في مادته التي هي السماء وأجرامها المختلفة كما سلف.
كما أن من الجدير التنبيه إليه أن معظم هذه الفروع العلمية التي تفرعت عن هذا العلم إنما انبثقت عنه خلال هذا القرن الذي نعيش أيامه، ولم تكن معروفة من قبل.
التنجيـــــم:
كثيراً ما يقترن بعلم الفلك ويصاحبه ويخالطه اصطلاح آخر هو (التنجيم)Astrology .
وقد كان له عند الأقدمين من أسلافنا تسمية محددة مشهورة مذكورة، هي: (علم الأحكام) أو (علم أحكام النجوم) أو (علم النجوم الأحكامي).
والأول من هذه التسميات هو أكثرها وأشهرها استعمالا. ووصفه بالعلم Science خطأ محض، كما سيأتي بيانه قريبا.
والتنجيم ـ في لغة العرب ـ مشتق من النجوم والنظر فيها، ويعبر بالنجم عن (الوقت المضروب)(2). ومنه (المنجم)، (المتنجم) و (النجام) وهو (من ينظر فيها ـ أي في النجوم ـ بحسب مواقيتها وسيرها في طلوعها وغروبها)(3).
وقولهم: (نظر في النجوم: فكر في أمر ينظر كيف يدبره)(4).
والتنجيم باعتباره مصطلحاً هو: (التطلع إلى معرفة الغيب من خلال النظر في النجوم)(5).
ويعرفه صاحب (كشف الظنون) بأنه (الاستدلال بالتشكيلات الفلكية من أوضاعها وأوضاع الكواكب ـ القابلة، والمقارنة، والتسديس، والتربيع (6) ـ على الحوادث الواقعة في عالم الكون والفساد في أحوال الجو والمعادن والنباتات والحيوان)(7).
وخلاصة ما يمكن قوله في هذا المقام أن كل ما يبحث فيه هذا (العلم)؟! لا يعد في الحقيقة علماً Science بالمعنى الاصطلاحي المعروف للعلم، بل هو حديث خرافة، ولا صلة له بالعلم من قريب ولا بعيد. وهي أي: (الخرافة) ـ في لغة العرب ـ مشتقة من (الخَرَف) وهو: (فساد العقل من الكبر)(.
وتعريفها علميا: (اعتقاد أو فكرة لا تتفق مع الواقع الموضوعي بل تتعارض معه)(9).
ولذا جاء رفض هذا الدين ـ كتاباً وسنة ـ لهذا الفرع من الفروع الناظرة إلى السماء بقصد الربط بينها وبين ما يحدث على الأرض من وقائع وأحداث.
فأوضح الكتاب العزيز في بيان محكم، وتبيين دقيق، وإيضاح جلي أن الغيب لا يعلمه إلا الله: (قُل لا يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشـْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل: )65.
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شىْءٍ قَدِير(ٌ{ النحل: 77. }وَعِنـْدَهُ مَفَاتِـحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُو)َ( الأنعام: )59.
وأمر سبحانه نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يعلن على الملأ أنه لا يعلم الغيب: }قُل لا أمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرٌّا إِلا مَا شـَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخيْرِ وَمَا مَسَّنِى السُّوءُ إِنْ أَنـَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنــُونَ{ الأعراف: 188.
وجاء في صحيح السنة الشريفة التحذير الشديد من التردي في وهدة الخرافة في بيان نبوي رفيع. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)(10).
وفي هذا تصريح بأن التنجيم من السحر ؛ والله تعالى يقول: }وَلا يُفْلِـحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أتَى{ طه: 69.
وفي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوما)(11). وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)(12).
و (العراف) كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: (اسم للكاهن والمنجم والرمّال ونحوهم كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف.. والمنجم يدخــل في اسم العرّاف)(13).
ويقول رحمه الله: (فقد تبين: تحريم الأخذ بأحكام النجوم علماً وعملاً من جهة الشرع، وقد بينا من جهة العقل أن ذلك أيضاً متعذر في الغالب لأن أسباب الحوادث وشروطها وموانعها لا تضبط بضبط حركة بعض الأمور، وإنما تتفق الإصابة في ذلك إذا كان بقية الأسباب موجودة، والموانع مرتفعة لا أن ذلك عن دليل مطرد لازماً أو غالبا)(14).
ويتحدث العلامة ابن خلدون عن أضرار هذه الصناعة في العمران الإنساني بما يمكن تلخيص مقاصده في النقاط التالية:
1 ـ (تبعث في عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقاً لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيق، فيلهج بذلك من لا معرفة له ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها وليس كذلك، فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها.
2 ـ ثم ما ينشأ عنها كثيراً في الدول من توقع القواطع، وما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء المتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة وقد شاهدنا من ذلك كثيرا)(15).
فيتلخص من كل ما تقدم أن هذا (التنجيم ليس علماً ولا علاقة له بالعلم) أما سبب اقترانه بعلم الفلك فلأنهما مشتركان في المادة الأساسية لكل منهما وهي هذه السماء بأجرامها وظواهرها الكونية المختلفة.
مظاهر العناية الإسلامية بعلم الفلك وبواعثه:
أما علم الفلك، فقد حظي بعناية أهل الإسلام منذ عهد بعيد ؛ ولا غرابة في ذلك ؛ إذا علم أن القرآن الحكيم أورد جملة وافرة وعدداً كبيراً من الآيات المتعلقة بالكون والفلك. وإن كان المقصود الأساس منها هو: الهداية للتي هي أقوم.
وتتجلى مظاهر العناية القرآنية بالفلك في الأمور التالية:
1 ـ التأكيد على (السماء) و (الكون) بما يفوق التركيز على (الإنسان)، فمن ذلك قوله سبحانه: }أأنْتـُمْ أَشـَدُّ خَلْقًا أمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا*رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا*وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا{ النازعات 27 ـ 29.
وقوله عز اسمه: (لَخـَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النــَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النــَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) غافر: 57 والآي
2 ـ ورود (مفردات فلكية) كثيرة في القرآن.
فلفظ (السماء) و (السموات) ورد في القرآن 310 مرة. ولفظ (الشمس) 33 مرة. ولفظ (القمر) 27 مرة. ولفظ (النجم)، (النجوم) 13 مرة.
3 ـ تسمية بعض سور القرآن بـ (أسماء فلكية) و(ظواهر كونية) من مثل: (القمر، النجم، الشمس، المعارج، التكوير، الانفطار، البروج، الانشقاق..).
4 ـ ورود تلك الآيات الداعية إلى النظر في السماء والتفكر في بنائها المحكم، ومحتوياتها المذهلة، وإلى النظر والتفكر أيضاً في الظواهر الكونية المختلفة ؛ مثل قوله عز شأنه: }أوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلــَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ وَأَنْ عَسَى أن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلــُهُمْ{ الأعراف: 185.
(أَفَلَمْ يَنـْظــُرُوآ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنـَيْـنَاهَا وَزَيَّنــَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ{ سورة ق: 6، }إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللــَّيْلِ وَالنــَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِى الألْبَابِ*الـَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللــَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنــُوبِهِمْ وَيَتَفَـكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبـَّـنـَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النــَّارِ{ آل عمران: 190، 191، }أَفَلا يَنـْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ{ الغاشية: 17، 18، }هُوَ الـَّـذِى جَعَلَ الشـَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( يونس: )6.
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً لا يمكن حصرها في مثل هذا المقال الوجيز.
ولا ريب أنه كان لهذه الآيات أبلغ الآثار في نفوس الفلكيين المسلمين، فأقبلوا عليها دارسين وباحثين في دقائقها، غواصين في بحار معانيها، ملتقطين عجائب لآلئها، موجهين الأنظار إلى ما حوته من إعجاز علمي بين.
ولهذا لم يكن عجباً أن يعد كثير من العلماء والباحثين (16) بحق علم الفلك كله تفسيراً لهذه الآيات القرآنية الكونية وبياناً لما تضمنته من إعجاز علمي شهدت ولا تزال تشهد به الحقائق العلمية التي أذهلت العالم !