لقد عمل المنافقون بكل خطة تبعد النصر عن المؤمنين؛ فعملوا على إضعاف هممهم ، وتثبيطهم عن الجهاد، وزرع الفتنة والفساد فيما بينهم، كما قال تعالى: ﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ $ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 47-48">؛ فمن تثبيطهم: ﴿ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ [آل عمران: 154">: ﴿ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ [آل عمران: 167"> : ﴿ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ [آل عمران: 168"> : ﴿ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ ﴾ [التوبة:81"> :﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾ [الأحزاب: 12"> ، ومن أعذارهم للتخلف عن الجهاد: ﴿ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ﴾ [المائدة: 52"> : ﴿ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾ [الأحزاب: 13">؛ لذلك نهى الله نبيه r عن طاعتهم فقال: ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [الأحزاب: 48"> ، وأمر بتطهير الجيش منهم: ﴿ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ [التوبة: 83">.
14- إعداد العدة:
أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب، وما يتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين؛ من السلاح والرمي وغير ذلك، ورباط الخيل([93">)، قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60">؛ فهو يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها([94">)؛ من كل ما يتقوى به في الحرب كائناً ما كان([95">)، إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا يقعد المسلمون عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتهم([96">)، والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله تعالى، وعطفها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها([97">)، كما ورد تفسير القوة بالرمي في قول النبي r وهو على المنبر: (( ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي )) ([98">)، ولعل تخصيصه إياه بالذكر لإنافته على نظائره من القوى ([99">).
والغرض من إعداد القوة هو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء المسلمين في الأرض؛ الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون، ومَن وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة. وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم، وأن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الاعتداء على المسلمين، أو الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية([100">).
فالمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة مادياً ومعنوياً سياسياً وإعلامياً واقتصادياً وعسكرياً بالأسلحة المتطورة والجنود الأكفاء، ليكونوا مرهوبي الجانب، ولتكون كلمة اللّه هي العليا.
وهذا الإعداد هو إعداد للسلاح والتدرب عليه، وإعداد للمال الذي يجهز به الجيش والسلاح، وكذلك هو إعداد للجندي الذي يستخدم السلاح وللقائد الذي يدير المعركة، وهذا كله من أسباب النصر:
فوجود القيادة المؤمنة القوية من أسباب النصر؛ إذ لا يتصور أن تقوم معركة ناجحة يتحقق فيها النصر دون أن تكون هناك قيادة ناجحة، وقد كان النبي r هو القائد العام في عصره، كما كان يختار القادةَ ويعدّهم لتحمّل المسؤولية، وكذلك كان الخلفاء من بعده نافذي البصيرة في اختيار القادة، كاختيار أبي بكر لخالد بن الوليد في حروب الردة والحروب الفارسية، واختيار عمر لسعد بن أبي وقاص في القادسية، والنعمان بن مقرن في نهاوند، وأبي عبيدة في فتوح الشام، وغير هؤلاء وهؤلاء.
والقائد الناجح ينبغي أن تتحقق فيه جملة صفات أهمها:
1- القابلية على إعطاء القرار السريع الصحيح: ويستند هذا إلى عاملين: القابلية العقلية للقائد، والحصول على المعلومات من خلال دوريات القتال والاستطلاع والعيون واستنطاق الأسرى والاستطلاع الشخصي واستشارة ذوي الرأي.
2- الشجاعة الشخصية. 3- الإرادة القوية الثابتة. 4- تحمّل المسؤولية بلا تردد.
5- معرفة مبادئ الحرب. 6- نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار.
7- سبق النظر. 8- معرفة نفسيات مرؤوسيه وقابلياتهم. 9- ثقة قطعاته به وثقته بقطعاته. 10- المحبة المتبادلة بينه وبين قواته. 11- شخصية قوية نافذة. 12- قابلية بدنية. 13- ماضٍ ناصع مجيد.
هذه هي الصفات المثالية للقائد الممتاز، وهي نتيجة لدراسة شخصيات أبرز القادة في التاريخ؛ لذلك هي مجموعة من مزايا شخصيات كثيرة لا شخصية واحدة، ومن الممكن أن تتوفر في شخص واحد([101">).
هذه الصفات الممتازة للقائد تحتاج إلى جندي ممتاز يتحلى بصفات أهمها:
1- عقيدة راسخة. 2- معنويات عالية. 3- ضبط قوي.
4- تدريب جيد. 5- تنظيم صحيح. 6- تسليح ممتاز.
تلك هي مزايا الجندي الممتاز في كل زمان ومكان([102">).
فالقيادة الممتازة التي تتحلى بهذه الصفات، إذا اجتمعت مع جيش يتحلى بصفات الجندي الممتاز تحقق النصر والتمكين بإذن الله تعالى.
وإعداد المال للجهاد في سبيل الله وردت فيه آيات وأحاديث كثيرة، تأمر وترغّب فيه، منها قوله تعالى: ﴿ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41">. وجاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي r بألف دينار حين جهز جيش العُسْرة، ففرغها عثمان في حجر النبي r، فجعل النبي r يقلّبها ويقول : (( ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد هذا اليوم )) قالها مراراً ([103">).
وقد طَمْأن الله المنفقين بأن لا يضيع لهم عند الله أجر الإنفاق في الآخرة، وعاجل خلفه في الدنيا؛ فما أنفقتم أيها المؤمنون من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كراع أو غير ذلك من النفقات في جهاد أعداء الله المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا، ويدّخر لكم أجوركم على ذلك عنده حتى يوفيكموها يوم القيامة ([104">).
وقد أمر الإسلام بالتدريب على السلاح، ونهى عن التخلف عنه، وشجع المتفوقين فيه، وكرَّمهم في حياتهم وبعد موتهم؛ إذ لا قيمة لأي سلاح إلا باستعماله، والتدريبُ على استعماله تدريباً راقياً دائباً هو الذي يمنح المقاتل ثقته بسلاحه، وحرْص المسلمين على التدريب، وتفوقهم فيه، كان سبباً من أسباب انتصارهم في المعارك التي خاضوها([105">).
وقد رغّب النبي r بالرمي وركوب الخيل - وهو سلاح ذلك العصر- وحذّر من ترك الرمي فقال: (( إن الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثةَ نفرٍ الجنةَ؛ صانعَه يحتسب في صنعه الخير والرامي به ومنبله، وارموا واركبوا وأن ترموا أحَبّ إليّ من أن تركبوا، وليس اللهو إلا في ثلاثة؛ تأديب الرجل فرسه وملاعبته امرأته ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها - أو - قال كفر بها )) ([106">). وتعلم الفروسية واستعمال الأسلحة فرض كفاية، وقد يتعين([107">). أي يصير فرض عين.
وإذا كان الرمي والفروسية أساليب الجهاد في القديم، فهذا يتطلب أن يبذل المسلمون أقصى استطاعتهم في تعلم وابتكار الأساليب القتالية الحديثة، ومتابعة التقدم العلمي، ودراسة آخر نتائج الفكر العسكري، بل إن الإسلام قد حض على أبعد من ذلك وهو أن يعتمد المسلمون على التصنيع الحربي، ولا يعتمدوا على عدوهم أن يصدّر لهم السلاح؛ إذ لا يعقل أن يعطينا العدو سلاحاً قوياً متطوراً ليُضرب به، ولعل هذا المعنى نلمحه من الحديث النبوي السابق : ((صانعه يحتسب في صنعه الخير )) ومن الحديث الذي يرويه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كانت بيد رسول الله r قَوْس عربية، فرأى رجلاً بيده قوس فارسية، فقال: (( ما هذه؟ أَلْقِها، وعليك بهذه وأشباهها، ورِماح القَنَا، فإنهما يؤيد الله بهما في الدِّين، ويمكِّن لكم في البلاد )) ([108">). وقد أجاب ابن القيم عن هذا الحديث، بأن النهي كان في وقت مخصوص وهو حين كانت العرب هم عسكر الإسلام وقسيّهم العربية، فكلامهم بالعربية، وأدواتهم عربية ، وفروسيتهم عربية، وكان الرمي بغير قسيهم والكلام بغير لسانهم حينئذ تشبهاً بالكفار من العجم وغيرهم([109">).
لكن يمكن أن نفهم من هذا الحديث أن يعتمد المسلمون على السلاح الوطني، تصنيعاً وتدريباً .
15- إذكاء الروح المعنوية:
من الأسباب المساعدة على حصول النصر رفع الروح المعنوية لدى المقاتل؛ إذ لا قيمة لأي جيش ما لم تكن معنوياته عالية، وقد اعتنى الإسلام بهذا الجانب؛ فقد كان النبي r يشجع أصحابه قبل المعارك وأثناءها؛ ففي غزوة بدر فيما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ... دنا المشركون، فقال رسول الله r: (( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)) قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: (( نعم )). قال: بخ بخ. فقال رسول الله r: (( ما يحملك على قولك بخ بخ ؟)) قال: لا، والله يا رسول الله! إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: (( فإنك من أهلها )). فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل ([110">).
بل إن الأحداث الصغار كانت معنوياتهم عالية، قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما ، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل. فقلت: يا ابن أخي، وما تصنع به! قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه. فقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدّا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه ، وهما ابنا عفراء([111">).
وبعد أُحد خاطب الله المؤمنين يشجعهم ويقوي قلوبهم ويسليهم عما أصابهم يوم أُحد من القتل والقرح: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139">. أي: لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على من قتل منكم، وأنتم الأعلون الغالبون دون عدوكم؛ فإن مصير أمرهم إلى الدمار، حسبما شاهدتم من أحوال أسلافهم، فهو تصريح بالوعد بالنصر والغلبة بعد الإشعار به([112">).
كما أمرهم أن لا يضعفوا في طلب أبي سفيان ومن معه حين انصرفوا من أُحد فقال: ﴿ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [النساء: 104">. فليس ما تقاسونه من الآلام مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم، ثم إنهم يصبرون على ذلك، فما لكم لا تصبرون! مع أنكم أولى به منهم، حيث ترجون من الله من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب في الآخرة مالا يخطر ببالهم([113">).
فخرج النبي r بأصحابه الذين اشتركوا بأُحد فقط في اليوم الثاني من أُحد، لمطاردة قوات قريش، فلما وصل موضع حمراء الأسد جاءه من يخبره بأن قريشاً قررت السير إليه، فلم تتضعضع معنويات المسلمين، وقرروا لقاء قريش، وبقوا ينتظرون هناك هذا الوعيد ثلاثة أيام، فلما علموا بانسحاب قريش عادوا أدراجهم إلى المدينة.
وبهذه الحركة الجريئة استرد المسلمون كثيراً من مكانتهم التي فقدوها في أُحد؛ فخفّفت من وقع الهزيمة في أُحد، وردّت إليهم معنوياتهم، وأدخلت الرهبة إلى روع اليهود والمنافقين، وأعادت لهم سلطانهم بيثرب قوياً كما كان([114">).
وكما عمل الرسول r على رفع معنويات أصحابه في سائر الغزوات عمل على تحطيم معنويات أعدائه بشتى الطرق والمناسبات، وما كانت غزوة الحديبية وعمرة القضاء وغزوة تبوك إلا معارك معنويات لا معارك ميدان.
إن عمرة القضاء فتحت قلوب أهل مكة لأنها حطمت معنوياتهم، وغزوة الفتح فتحت أبواب مكة، كما أن نتيجة غزوة تبوك اندحار معنوي للروم، وبذلك اطمأن العرب إلى أنه بإمكانهم مقاتلة الروم، وكانوا سابقاً يظنون أن ذلك من المستحيلات.
إن أكثر غزوات الرسول r كانت معارك معنويات تؤثر على النفوس والقلوب لا معارك خسائر تؤثر على الأرواح والممتلكات([115">). إنه كان حريصاً على هدايتهم وقتل كفرهم لا قتلهم هم.
هذه أهم الأسباب الموجبة للنصر، نسأل الله تعالى أن يهيئ هذه الأمة لتحقيقها ونيله.
المبحث الثالث : أسباب الهزيمة .
إن نصر الله جل وعز متحقق لمن يحقق أسبابه، فإذا تخلفت هذه الأسباب والشروط تخلف النصر وحلّت الهزيمة، فأسباب الهزيمة هي ضد أسباب النصر المتقدم ذكرها؛ لهذا لا نطيل الكلام عليها، وأهم هذه الأسباب:
1- المخالفة والمعصية :
المعصية ومخالفة القائد من أسباب الهزيمة، وهو نقص في إيمان المقاتل، قال ابن القيم: من نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد؛ ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوه عليه فإنما هي بذنوبه؛ إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه([116">).
والمثال الحي الواضح لأثر المعصية ما حصل في يوم أُحد، وقد ابتدأت المخالفة قبل المعركة، عندما أخبرهم النبي r برؤياه: (( قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلْتُها المدينة )) ([117">). لكن الشباب المتحمس ألحّ على النبي r في الخروج إليهم، ومن هنا بدأت الهزيمة، وفي الطريق انخذل عبد الله بن أبيّ بثلث الجيش، معلياً حظ النفس على العقيدة، وهذه الخطوة الثانية في الهزيمة، وفي المعركة أنزل الله نصره على المؤمنين، فحسّوهم بالسيوف حتى كشفت قريش وكانت الهزيمة، لكن الرماة الذين أوصاهم النبي r وشدد عليهم في الوصية أن لا يبرحوا أماكنهم: (( إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا، حتى أرسل إليكم )) ([118">). لكنهم خالفوا فانقلبت كفة النصر إلى هزيمة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152">.
قال الطبري: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ﴾ : حتى إذا جبنتم وضعفتم، ﴿ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ﴾. يقول: واختلفتم في أمر الله. ﴿ وَعَصَيْتُم ﴾ يقول: وخالفتم نبيكم r، فتركتم أمره، وما عهد إليكم. وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان r أمرهم بلزوم مركزهم، ومقعدهم من فم الشعب بأُحد، بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين... ([119">).
لقد تفرّق الصف لتفرق الدوافع: ﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152">.
لقد كانت أُحد درساً بليغاً في الالتزام بالطاعة، والأخذ بأسباب النصر والتمكين.
2-3-4- البطر والرياء والصد عن دين الله :
وهذا ما حذّر الله منه المؤمنين بعد أن بين لهم عوامل النصر في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ $ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45-46">، فحذّر الله المؤمنين أن يتشبهوا بحال الكافرين - حال خروجهم للجهاد في سبيله - من البطر والرياء والصدّ عن سبيل الله بقوله: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [الأنفال: 47">؛ لأن نتيجة هذه الأمراض الهزيمة، كما حلّ بقريش يوم بدر.
5-6- الغفلة عن الله والاتكال على الأسباب:
الأخذ بالأسباب من لوازم النصر، لكن ينبغي أن لا نتكل على هذه الأسباب وننسى مسببها جل وعلا، فإذا كان الجيش كبيراً مدرباً مسلحاً، ينبغي أن لا ينسى أن النصر من عند الله لا بهذه الجاهزية، وقد كان للمسلمين درس عظيم في غزوة حُنين عندما أعجب الصحابة بأنفسهم وبكثرتهم، وغفلوا عن مُنزل النصر ومالكه، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة؛ فكانت الهزيمة([120">)، فما أغنت عنهم الكثرة شيئاً، وسجّل الله لهم هذا الدرس بقوله: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25">، ونصر نبيه r بقلّة مؤمنة، وبجند من عنده: ﴿ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 26">.
7- موالاة الكفار والمشركين:
من أسباب الهزيمة موالاة الكفار، وقد نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار لأي سبب من الأسباب([121">)، قال تعالى: ﴿ لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28">. نُهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية ونحوهما من أسباب المصادقة والمعاشرة، حتى لا يكون حبهم ولا بغضهم إلا لله تعالى، أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية([122">).
ومثله قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1">. يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يُتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51"> وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد([123">). فكيف يرتجى نصر من يواليهم!
8- بطانة السوء:
من أسباب الهزيمة إفشاء أسرار جيش المسلمين، وهذا يكون عن طريق البطانة السيئة من المنافقين ومدخولي الإيمان، وقد نهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم. والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالاً أي: يسْعون في مخالفتهم وما يضرّهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118">. وقوله تعالى: ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ﴾ أي: من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم: خاصة أهله الذين يطلعون على داخلة أمره. وقد قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتباً. فقال: قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين([124">).
يقول ابن كثير: ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ﴾. ثم قال تعالى: ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ أي: قد لاح على صفحات وجوههم وفلَتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾([125">).
9- التنازع وتفرق الكلمة:
الاختلاف بين المسلمين، وتفرق الكلمة، وتمزق الشمل، من أسباب الهزيمة، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46">. وقد مثّل عهد ملوك الطوائف في الأندلس عهد التفكك والفرقة والتنافس والتناحر والضياع، ابتدأ هذا العهد عام 400هـ/1009م حيث قامت سبع وعشرون طائفة (إمارة- دويلة) تتنافس فيما بينها، ويتربص بعضهم ببعض، لعل أمير أحدها يملك ما بيد أخيه، وقد سببت هذه الدويلات حالة من الارتباك وضياع الجهود، بينما كانت إسبانيا النصرانية تتربص بهم جميعاً، حتى بمن بينها وبينه تحالف أو صداقة، فسقطت طليطلة سنة 478هـ ، وتتابعت الدويلات في السقوط أمام وحدة إسبانيا النصرانية، حتى غابت شمس الإسلام عن الأندلس عام 897هـ/ 1491م، بعد أن بقي الإسلام فيها سبعمائة وثمان وسبعين سنة. لقد أسدل الستار على الحكم الإسلامي في الأندلس لتبدأ محنة شعب مسلم يواجه محاكم التفتيش التي أجبرت بروح صليبية حاقدة المسلمين في إسبانيا على اعتناق النصرانية، ومن حاول الهجرة إلى العُدوة الإفريقية لاحقته محاكم التفتيش، وأبادت ما يمكن إبادته([126">)، إنها العِبرة! لكن لا معتبر!
10- الجمود على القديم ونبذ التقدم العلمي والعسكري:
كان العرب يعتمدون في قتالهم على الكرّ والفر، ففاجأ النبي r المشركين بالقتال بالصف يوم بدر، وبحفر الخندق يوم الأحزاب، واستخدم الدبابات في حصار الطائف، كما اقتبس خالد ابن الوليد أسلوب الكراديس من الروم قبل معركة اليرموك، وفي نهاوند فاجأ المسلمون الفرس بأسلوب تراجع القلب عن قصدٍ ليلتف عليهم الميمنة والميسرة، وفي الزلاقة فاجأ يوسف بن تاشفين النصارى بنظام الكمائن التي دخلت المعركة في الوقت المناسب، وهكذا تكون القيادة العبقرية تبهر العدو وتفوّت عليه حساباته، وتربكه وتضمن عنصر المفاجأة ([127">)بما يتناسب مع حال المعركة وزمانها ومكانها، باستخدام أحدث الأساليب القتالية والأسلحة المتطورة، أما من أراد الجمود على الأسلحة القديمة التي عفى عليها الزمان، أو الأساليب القتالية التي لا تواكب العصر فنتيجته الهزيمة والخسران.
11- ترك الجهاد والإخلاد إلى الدنيا وترفها:
الجهاد الإسلامي ثوب العز والنصر لمن ارتداه، والذل والهزيمة لمن خلعه وأباه، وإن استعادة الأرض المغتصبة في كثير من بلاد المسلمين لا يكون إلا بالجهاد الإسلامي؛ لهذا نجد « العقيدة العسكرية الإسلامية تأمر بالجهاد وتنهى عن تركه، وتُعَلِّمُ أسسه ومبادئه، وتخرّج المجاهدين الصادقين. والعَود الأحمد إلى هذه العقيدة، هو طريق النصر والعزة والمجد، وإلاّ فكيف ننتصر بدونها! » ([128">) وأقرب الأمثلة لذلك المسلمون في الأندلس، لما أصبحوا على حال الترف والإخلاد إلى الأرض، والأمن والنعيم الدائم، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال ، وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد وأي بلاد ؟ وأسَرَ وقتل وسبى واسترقّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته! ([129">). وليس حالنا الحاضر بأفضل من حالهم.
12- الوهن والضعف:
الوهن والضعف النفسي والحسي سببان من أسباب الهزيمة، فإذا أحبط المقاتل وقتلت معنوياته، دبّ الرعب في قلبه وترك المعركة فارّاً منهزماً؛ و« دول العالم اليوم تعطي 75% للمعنويات و25% للأمور المادية في جيوشها »([130">). وقد تخلخل الصفّ المسلم في أُحد عندما نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل. ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمداً. فحصل للمسلمين ضعف ووهن وتأخر عن القتال فقتل من قتل منهم، وانهزم من انهزم منهم ، فجاءت الآيات منكرةً على من حصل له ضعف منهم: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144"> ([131">).
هذه أهم أسباب الهزيمة أعاذنا الله أن يصيبنا شيء منها، وأن يعصم أمتنا منها ويهيأها لطريق العزة والتمكين.
14- إعداد العدة:
أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب، وما يتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين؛ من السلاح والرمي وغير ذلك، ورباط الخيل([93">)، قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60">؛ فهو يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها([94">)؛ من كل ما يتقوى به في الحرب كائناً ما كان([95">)، إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا يقعد المسلمون عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتهم([96">)، والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله تعالى، وعطفها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها([97">)، كما ورد تفسير القوة بالرمي في قول النبي r وهو على المنبر: (( ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي )) ([98">)، ولعل تخصيصه إياه بالذكر لإنافته على نظائره من القوى ([99">).
والغرض من إعداد القوة هو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء المسلمين في الأرض؛ الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون، ومَن وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة. وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم، وأن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الاعتداء على المسلمين، أو الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية([100">).
فالمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة مادياً ومعنوياً سياسياً وإعلامياً واقتصادياً وعسكرياً بالأسلحة المتطورة والجنود الأكفاء، ليكونوا مرهوبي الجانب، ولتكون كلمة اللّه هي العليا.
وهذا الإعداد هو إعداد للسلاح والتدرب عليه، وإعداد للمال الذي يجهز به الجيش والسلاح، وكذلك هو إعداد للجندي الذي يستخدم السلاح وللقائد الذي يدير المعركة، وهذا كله من أسباب النصر:
فوجود القيادة المؤمنة القوية من أسباب النصر؛ إذ لا يتصور أن تقوم معركة ناجحة يتحقق فيها النصر دون أن تكون هناك قيادة ناجحة، وقد كان النبي r هو القائد العام في عصره، كما كان يختار القادةَ ويعدّهم لتحمّل المسؤولية، وكذلك كان الخلفاء من بعده نافذي البصيرة في اختيار القادة، كاختيار أبي بكر لخالد بن الوليد في حروب الردة والحروب الفارسية، واختيار عمر لسعد بن أبي وقاص في القادسية، والنعمان بن مقرن في نهاوند، وأبي عبيدة في فتوح الشام، وغير هؤلاء وهؤلاء.
والقائد الناجح ينبغي أن تتحقق فيه جملة صفات أهمها:
1- القابلية على إعطاء القرار السريع الصحيح: ويستند هذا إلى عاملين: القابلية العقلية للقائد، والحصول على المعلومات من خلال دوريات القتال والاستطلاع والعيون واستنطاق الأسرى والاستطلاع الشخصي واستشارة ذوي الرأي.
2- الشجاعة الشخصية. 3- الإرادة القوية الثابتة. 4- تحمّل المسؤولية بلا تردد.
5- معرفة مبادئ الحرب. 6- نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار.
7- سبق النظر. 8- معرفة نفسيات مرؤوسيه وقابلياتهم. 9- ثقة قطعاته به وثقته بقطعاته. 10- المحبة المتبادلة بينه وبين قواته. 11- شخصية قوية نافذة. 12- قابلية بدنية. 13- ماضٍ ناصع مجيد.
هذه هي الصفات المثالية للقائد الممتاز، وهي نتيجة لدراسة شخصيات أبرز القادة في التاريخ؛ لذلك هي مجموعة من مزايا شخصيات كثيرة لا شخصية واحدة، ومن الممكن أن تتوفر في شخص واحد([101">).
هذه الصفات الممتازة للقائد تحتاج إلى جندي ممتاز يتحلى بصفات أهمها:
1- عقيدة راسخة. 2- معنويات عالية. 3- ضبط قوي.
4- تدريب جيد. 5- تنظيم صحيح. 6- تسليح ممتاز.
تلك هي مزايا الجندي الممتاز في كل زمان ومكان([102">).
فالقيادة الممتازة التي تتحلى بهذه الصفات، إذا اجتمعت مع جيش يتحلى بصفات الجندي الممتاز تحقق النصر والتمكين بإذن الله تعالى.
وإعداد المال للجهاد في سبيل الله وردت فيه آيات وأحاديث كثيرة، تأمر وترغّب فيه، منها قوله تعالى: ﴿ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41">. وجاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي r بألف دينار حين جهز جيش العُسْرة، ففرغها عثمان في حجر النبي r، فجعل النبي r يقلّبها ويقول : (( ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد هذا اليوم )) قالها مراراً ([103">).
وقد طَمْأن الله المنفقين بأن لا يضيع لهم عند الله أجر الإنفاق في الآخرة، وعاجل خلفه في الدنيا؛ فما أنفقتم أيها المؤمنون من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كراع أو غير ذلك من النفقات في جهاد أعداء الله المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا، ويدّخر لكم أجوركم على ذلك عنده حتى يوفيكموها يوم القيامة ([104">).
وقد أمر الإسلام بالتدريب على السلاح، ونهى عن التخلف عنه، وشجع المتفوقين فيه، وكرَّمهم في حياتهم وبعد موتهم؛ إذ لا قيمة لأي سلاح إلا باستعماله، والتدريبُ على استعماله تدريباً راقياً دائباً هو الذي يمنح المقاتل ثقته بسلاحه، وحرْص المسلمين على التدريب، وتفوقهم فيه، كان سبباً من أسباب انتصارهم في المعارك التي خاضوها([105">).
وقد رغّب النبي r بالرمي وركوب الخيل - وهو سلاح ذلك العصر- وحذّر من ترك الرمي فقال: (( إن الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثةَ نفرٍ الجنةَ؛ صانعَه يحتسب في صنعه الخير والرامي به ومنبله، وارموا واركبوا وأن ترموا أحَبّ إليّ من أن تركبوا، وليس اللهو إلا في ثلاثة؛ تأديب الرجل فرسه وملاعبته امرأته ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها - أو - قال كفر بها )) ([106">). وتعلم الفروسية واستعمال الأسلحة فرض كفاية، وقد يتعين([107">). أي يصير فرض عين.
وإذا كان الرمي والفروسية أساليب الجهاد في القديم، فهذا يتطلب أن يبذل المسلمون أقصى استطاعتهم في تعلم وابتكار الأساليب القتالية الحديثة، ومتابعة التقدم العلمي، ودراسة آخر نتائج الفكر العسكري، بل إن الإسلام قد حض على أبعد من ذلك وهو أن يعتمد المسلمون على التصنيع الحربي، ولا يعتمدوا على عدوهم أن يصدّر لهم السلاح؛ إذ لا يعقل أن يعطينا العدو سلاحاً قوياً متطوراً ليُضرب به، ولعل هذا المعنى نلمحه من الحديث النبوي السابق : ((صانعه يحتسب في صنعه الخير )) ومن الحديث الذي يرويه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كانت بيد رسول الله r قَوْس عربية، فرأى رجلاً بيده قوس فارسية، فقال: (( ما هذه؟ أَلْقِها، وعليك بهذه وأشباهها، ورِماح القَنَا، فإنهما يؤيد الله بهما في الدِّين، ويمكِّن لكم في البلاد )) ([108">). وقد أجاب ابن القيم عن هذا الحديث، بأن النهي كان في وقت مخصوص وهو حين كانت العرب هم عسكر الإسلام وقسيّهم العربية، فكلامهم بالعربية، وأدواتهم عربية ، وفروسيتهم عربية، وكان الرمي بغير قسيهم والكلام بغير لسانهم حينئذ تشبهاً بالكفار من العجم وغيرهم([109">).
لكن يمكن أن نفهم من هذا الحديث أن يعتمد المسلمون على السلاح الوطني، تصنيعاً وتدريباً .
15- إذكاء الروح المعنوية:
من الأسباب المساعدة على حصول النصر رفع الروح المعنوية لدى المقاتل؛ إذ لا قيمة لأي جيش ما لم تكن معنوياته عالية، وقد اعتنى الإسلام بهذا الجانب؛ فقد كان النبي r يشجع أصحابه قبل المعارك وأثناءها؛ ففي غزوة بدر فيما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ... دنا المشركون، فقال رسول الله r: (( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)) قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: (( نعم )). قال: بخ بخ. فقال رسول الله r: (( ما يحملك على قولك بخ بخ ؟)) قال: لا، والله يا رسول الله! إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: (( فإنك من أهلها )). فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل ([110">).
بل إن الأحداث الصغار كانت معنوياتهم عالية، قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما ، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل. فقلت: يا ابن أخي، وما تصنع به! قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه. فقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدّا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه ، وهما ابنا عفراء([111">).
وبعد أُحد خاطب الله المؤمنين يشجعهم ويقوي قلوبهم ويسليهم عما أصابهم يوم أُحد من القتل والقرح: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139">. أي: لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على من قتل منكم، وأنتم الأعلون الغالبون دون عدوكم؛ فإن مصير أمرهم إلى الدمار، حسبما شاهدتم من أحوال أسلافهم، فهو تصريح بالوعد بالنصر والغلبة بعد الإشعار به([112">).
كما أمرهم أن لا يضعفوا في طلب أبي سفيان ومن معه حين انصرفوا من أُحد فقال: ﴿ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [النساء: 104">. فليس ما تقاسونه من الآلام مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم، ثم إنهم يصبرون على ذلك، فما لكم لا تصبرون! مع أنكم أولى به منهم، حيث ترجون من الله من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب في الآخرة مالا يخطر ببالهم([113">).
فخرج النبي r بأصحابه الذين اشتركوا بأُحد فقط في اليوم الثاني من أُحد، لمطاردة قوات قريش، فلما وصل موضع حمراء الأسد جاءه من يخبره بأن قريشاً قررت السير إليه، فلم تتضعضع معنويات المسلمين، وقرروا لقاء قريش، وبقوا ينتظرون هناك هذا الوعيد ثلاثة أيام، فلما علموا بانسحاب قريش عادوا أدراجهم إلى المدينة.
وبهذه الحركة الجريئة استرد المسلمون كثيراً من مكانتهم التي فقدوها في أُحد؛ فخفّفت من وقع الهزيمة في أُحد، وردّت إليهم معنوياتهم، وأدخلت الرهبة إلى روع اليهود والمنافقين، وأعادت لهم سلطانهم بيثرب قوياً كما كان([114">).
وكما عمل الرسول r على رفع معنويات أصحابه في سائر الغزوات عمل على تحطيم معنويات أعدائه بشتى الطرق والمناسبات، وما كانت غزوة الحديبية وعمرة القضاء وغزوة تبوك إلا معارك معنويات لا معارك ميدان.
إن عمرة القضاء فتحت قلوب أهل مكة لأنها حطمت معنوياتهم، وغزوة الفتح فتحت أبواب مكة، كما أن نتيجة غزوة تبوك اندحار معنوي للروم، وبذلك اطمأن العرب إلى أنه بإمكانهم مقاتلة الروم، وكانوا سابقاً يظنون أن ذلك من المستحيلات.
إن أكثر غزوات الرسول r كانت معارك معنويات تؤثر على النفوس والقلوب لا معارك خسائر تؤثر على الأرواح والممتلكات([115">). إنه كان حريصاً على هدايتهم وقتل كفرهم لا قتلهم هم.
هذه أهم الأسباب الموجبة للنصر، نسأل الله تعالى أن يهيئ هذه الأمة لتحقيقها ونيله.
المبحث الثالث : أسباب الهزيمة .
إن نصر الله جل وعز متحقق لمن يحقق أسبابه، فإذا تخلفت هذه الأسباب والشروط تخلف النصر وحلّت الهزيمة، فأسباب الهزيمة هي ضد أسباب النصر المتقدم ذكرها؛ لهذا لا نطيل الكلام عليها، وأهم هذه الأسباب:
1- المخالفة والمعصية :
المعصية ومخالفة القائد من أسباب الهزيمة، وهو نقص في إيمان المقاتل، قال ابن القيم: من نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد؛ ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوه عليه فإنما هي بذنوبه؛ إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه([116">).
والمثال الحي الواضح لأثر المعصية ما حصل في يوم أُحد، وقد ابتدأت المخالفة قبل المعركة، عندما أخبرهم النبي r برؤياه: (( قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلْتُها المدينة )) ([117">). لكن الشباب المتحمس ألحّ على النبي r في الخروج إليهم، ومن هنا بدأت الهزيمة، وفي الطريق انخذل عبد الله بن أبيّ بثلث الجيش، معلياً حظ النفس على العقيدة، وهذه الخطوة الثانية في الهزيمة، وفي المعركة أنزل الله نصره على المؤمنين، فحسّوهم بالسيوف حتى كشفت قريش وكانت الهزيمة، لكن الرماة الذين أوصاهم النبي r وشدد عليهم في الوصية أن لا يبرحوا أماكنهم: (( إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا، حتى أرسل إليكم )) ([118">). لكنهم خالفوا فانقلبت كفة النصر إلى هزيمة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152">.
قال الطبري: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ﴾ : حتى إذا جبنتم وضعفتم، ﴿ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ﴾. يقول: واختلفتم في أمر الله. ﴿ وَعَصَيْتُم ﴾ يقول: وخالفتم نبيكم r، فتركتم أمره، وما عهد إليكم. وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان r أمرهم بلزوم مركزهم، ومقعدهم من فم الشعب بأُحد، بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين... ([119">).
لقد تفرّق الصف لتفرق الدوافع: ﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152">.
لقد كانت أُحد درساً بليغاً في الالتزام بالطاعة، والأخذ بأسباب النصر والتمكين.
2-3-4- البطر والرياء والصد عن دين الله :
وهذا ما حذّر الله منه المؤمنين بعد أن بين لهم عوامل النصر في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ $ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45-46">، فحذّر الله المؤمنين أن يتشبهوا بحال الكافرين - حال خروجهم للجهاد في سبيله - من البطر والرياء والصدّ عن سبيل الله بقوله: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [الأنفال: 47">؛ لأن نتيجة هذه الأمراض الهزيمة، كما حلّ بقريش يوم بدر.
5-6- الغفلة عن الله والاتكال على الأسباب:
الأخذ بالأسباب من لوازم النصر، لكن ينبغي أن لا نتكل على هذه الأسباب وننسى مسببها جل وعلا، فإذا كان الجيش كبيراً مدرباً مسلحاً، ينبغي أن لا ينسى أن النصر من عند الله لا بهذه الجاهزية، وقد كان للمسلمين درس عظيم في غزوة حُنين عندما أعجب الصحابة بأنفسهم وبكثرتهم، وغفلوا عن مُنزل النصر ومالكه، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة؛ فكانت الهزيمة([120">)، فما أغنت عنهم الكثرة شيئاً، وسجّل الله لهم هذا الدرس بقوله: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25">، ونصر نبيه r بقلّة مؤمنة، وبجند من عنده: ﴿ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 26">.
7- موالاة الكفار والمشركين:
من أسباب الهزيمة موالاة الكفار، وقد نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار لأي سبب من الأسباب([121">)، قال تعالى: ﴿ لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28">. نُهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية ونحوهما من أسباب المصادقة والمعاشرة، حتى لا يكون حبهم ولا بغضهم إلا لله تعالى، أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية([122">).
ومثله قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1">. يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يُتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51"> وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد([123">). فكيف يرتجى نصر من يواليهم!
8- بطانة السوء:
من أسباب الهزيمة إفشاء أسرار جيش المسلمين، وهذا يكون عن طريق البطانة السيئة من المنافقين ومدخولي الإيمان، وقد نهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم. والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالاً أي: يسْعون في مخالفتهم وما يضرّهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118">. وقوله تعالى: ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ﴾ أي: من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم: خاصة أهله الذين يطلعون على داخلة أمره. وقد قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتباً. فقال: قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين([124">).
يقول ابن كثير: ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ﴾. ثم قال تعالى: ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ أي: قد لاح على صفحات وجوههم وفلَتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾([125">).
9- التنازع وتفرق الكلمة:
الاختلاف بين المسلمين، وتفرق الكلمة، وتمزق الشمل، من أسباب الهزيمة، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46">. وقد مثّل عهد ملوك الطوائف في الأندلس عهد التفكك والفرقة والتنافس والتناحر والضياع، ابتدأ هذا العهد عام 400هـ/1009م حيث قامت سبع وعشرون طائفة (إمارة- دويلة) تتنافس فيما بينها، ويتربص بعضهم ببعض، لعل أمير أحدها يملك ما بيد أخيه، وقد سببت هذه الدويلات حالة من الارتباك وضياع الجهود، بينما كانت إسبانيا النصرانية تتربص بهم جميعاً، حتى بمن بينها وبينه تحالف أو صداقة، فسقطت طليطلة سنة 478هـ ، وتتابعت الدويلات في السقوط أمام وحدة إسبانيا النصرانية، حتى غابت شمس الإسلام عن الأندلس عام 897هـ/ 1491م، بعد أن بقي الإسلام فيها سبعمائة وثمان وسبعين سنة. لقد أسدل الستار على الحكم الإسلامي في الأندلس لتبدأ محنة شعب مسلم يواجه محاكم التفتيش التي أجبرت بروح صليبية حاقدة المسلمين في إسبانيا على اعتناق النصرانية، ومن حاول الهجرة إلى العُدوة الإفريقية لاحقته محاكم التفتيش، وأبادت ما يمكن إبادته([126">)، إنها العِبرة! لكن لا معتبر!
10- الجمود على القديم ونبذ التقدم العلمي والعسكري:
كان العرب يعتمدون في قتالهم على الكرّ والفر، ففاجأ النبي r المشركين بالقتال بالصف يوم بدر، وبحفر الخندق يوم الأحزاب، واستخدم الدبابات في حصار الطائف، كما اقتبس خالد ابن الوليد أسلوب الكراديس من الروم قبل معركة اليرموك، وفي نهاوند فاجأ المسلمون الفرس بأسلوب تراجع القلب عن قصدٍ ليلتف عليهم الميمنة والميسرة، وفي الزلاقة فاجأ يوسف بن تاشفين النصارى بنظام الكمائن التي دخلت المعركة في الوقت المناسب، وهكذا تكون القيادة العبقرية تبهر العدو وتفوّت عليه حساباته، وتربكه وتضمن عنصر المفاجأة ([127">)بما يتناسب مع حال المعركة وزمانها ومكانها، باستخدام أحدث الأساليب القتالية والأسلحة المتطورة، أما من أراد الجمود على الأسلحة القديمة التي عفى عليها الزمان، أو الأساليب القتالية التي لا تواكب العصر فنتيجته الهزيمة والخسران.
11- ترك الجهاد والإخلاد إلى الدنيا وترفها:
الجهاد الإسلامي ثوب العز والنصر لمن ارتداه، والذل والهزيمة لمن خلعه وأباه، وإن استعادة الأرض المغتصبة في كثير من بلاد المسلمين لا يكون إلا بالجهاد الإسلامي؛ لهذا نجد « العقيدة العسكرية الإسلامية تأمر بالجهاد وتنهى عن تركه، وتُعَلِّمُ أسسه ومبادئه، وتخرّج المجاهدين الصادقين. والعَود الأحمد إلى هذه العقيدة، هو طريق النصر والعزة والمجد، وإلاّ فكيف ننتصر بدونها! » ([128">) وأقرب الأمثلة لذلك المسلمون في الأندلس، لما أصبحوا على حال الترف والإخلاد إلى الأرض، والأمن والنعيم الدائم، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال ، وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد وأي بلاد ؟ وأسَرَ وقتل وسبى واسترقّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته! ([129">). وليس حالنا الحاضر بأفضل من حالهم.
12- الوهن والضعف:
الوهن والضعف النفسي والحسي سببان من أسباب الهزيمة، فإذا أحبط المقاتل وقتلت معنوياته، دبّ الرعب في قلبه وترك المعركة فارّاً منهزماً؛ و« دول العالم اليوم تعطي 75% للمعنويات و25% للأمور المادية في جيوشها »([130">). وقد تخلخل الصفّ المسلم في أُحد عندما نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل. ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمداً. فحصل للمسلمين ضعف ووهن وتأخر عن القتال فقتل من قتل منهم، وانهزم من انهزم منهم ، فجاءت الآيات منكرةً على من حصل له ضعف منهم: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144"> ([131">).
هذه أهم أسباب الهزيمة أعاذنا الله أن يصيبنا شيء منها، وأن يعصم أمتنا منها ويهيأها لطريق العزة والتمكين.