المقدمة :
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على الرسول القائد سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد: فإن الناظر في حال المسلمين اليوم يصاب بالإحباط لما يرى من تداعي الأمم على هذه الأمة المستضعفة المشتتة النائمة، وإن صحَت فهي حائرة لا تدري أين تتوجه، ولا كيف تتخلص مما هي فيه، وكتاب ربها يناديها: ﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴾ [التكوير : 26">.
إنها الفتنة التي تدع الحليم حيران، لكن المؤمنين الصادقين ينظرون من وراء أسجاف هذه الفتن، يستشفّون المستقبل بنظرة تفاؤلية، ينتظرون بزوغ الفجر بعد هذا الليل الثقيل، فهذا الحال وإن طال لكنه لا يدوم، وكلما اشتدت الأزمات آذنت بقرب الفرَج، و: ﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا ً﴾ [الشرح : 6">. و: (( لن يغلب عسر يسرين )) ([1">)، وإن المنح بعد المحن؛ لأن المستقبل لهذا الدين، بعز عزيز أو بذلّ ذليل، كما أخبرنا النبي r بذلك: (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزّاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذلّ الله به الكفر )) ([2">).﴿ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [ الصف: 8">.
وإن هذا الفجر الذي طال انتظاره قريب إن شاء الله تعالى، ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ $ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم : 4-5">. لكنه يحتاج إلى التضحية، أن نضحي بأهوائنا وشهواتنا، وأن نعود إلى ديننا فننصر ربنا بالتزامنا به والمحافظة على حدوده؛ لينصرنا ربنا تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40">.
إنها سنّة من سنن الله تعالى في التمحيص والابتلاء، ودرس من دروس التربية القرآنية، لتتقبل النفس الحق وتدافع عنه وتسترخص في إقامته كل غال ونفيس.
لقد ربّى النبي r أصحابة على تقبّل هذه السنن ودربهم عليها؛ فقد جاء خباب بن الأرت رضي الله عنه يسأل النبي r أن يطلب لهم النصر من الله تعالى؛ لأنهم لم يطيقوا ما يلقونه من قريش، قال خبّاب : شكونا إلى رسول الله rوهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له : ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا ؟ قال: (( كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه! ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه! والله ليتمَّن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون )) ([3">) إنه استعجال النتائج والثمرات قبل الأوان.
ولما نزلت بمكة: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 45">، قال عمر رضي الله عنه: أي جمع هذا ؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله rوبيده السيف مصلتاً وهو يقول: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ ([4">). لقد جاء تأويلها بعد قرابة اثني عشر عاماً من نزولها.
وهل أمِنوا بعد أن فارقوا مكة وهاجروا إلى المدينة؟ لقد رمتهم العرب عن قوس واحدة، فزاد خوفهم، فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال : لما قدم رسول r الله وأصحابة المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أتُرون أنّا نعيش حيث نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله!! فنزلت: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55"> ([5">). في هذه الظروف جاءت الآيات تعِدُهم بالاستخلاف في الأرض والتمكين لدينهم الذي ارتضاه الله لهم.
إن الابتلاء سنة من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول، على اختلاف الزمان والمكان، كما أن الابتلاء قد يكون عقوبة على التقصير والإهمال والتفريط، والشواهد لهذا كثيرة، كقوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ... ﴾ [النساء: 62">، وقوله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ... ﴾ [آل عمران: 165"> أي: بما عصيتم([6">).
وقد يكون الابتلاء للتمحيص والطهارة والتنقية والترقية، كما جرت هذه السنة على من سبقنا من أمم الأرض، قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214">. أي: أم حسبتم أنكم - أيها المؤمنون بالله ورسله - تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتلوا واختُبروا به من البأساء وهو: شدة الحاجة والفاقة. والضراء، وهي: العلل والأوصاب. ولم تزلزلوا زلزالهم، يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهد حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟
ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريب، وأنه معليهم على عدوهم، ومظهرهم عليه، فنجز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا. وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل - نزلت يوم الخندق حين لقي المؤمنون ما لقوا من شدة الجهد من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ ([7">).
فالابتلاء قد يكون بالحرب وقد يكون بنقص الأموال والأنفس والثمرات: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155">. وهذه الابتلاءات كلها تعود بالخير العظيم على المؤمن.
« ففي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات، فليس أكرم في النفس من أن يعزّ عليها الحق الذي تؤمن به، حتى تجاهد في سبيله، فتَقتُل وتُقتَل، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه، ولا تستطيع الحياة بدونه، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله.
ويريد ليربيهم، فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية، مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه، ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف، ويكمل كل نقص، وينفي كل زغَل ودخَل، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة، وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد، والتطلع إلى وجه الله ورضاه، فترجح هذه وتشيل تلك، ويعلم الله من هذه النفوس أنها خُيّرت فاختارت، وأنها تربت فعرفت، وأنها لا تندفع بلا وعي، ولكنها تقدر وتختار.
ويريد ليصلحهم، ففي معاناة الجهاد في سبيل الله، والتعرض للموت في كل جولة، ما يعوِّد النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه، وهو هيّن هيّن عند من يعتاد ملاقاته، سواء سلم منه أو لاقاه.
والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئاً يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام، وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح » ([8">).
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ﴾ [ محمد: 4">. أي: ولو يشاء الله لانتصر من هؤلاء المشركين بعقوبة منه لهم عاجلة، وكفاكم ذلك كله، ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار منهم، وعقوبتهم عاجلاً إلا بأيديكم أيها المؤمنون؛ ليختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين، ويبلوهم بكم فيعاقب بأيديكم من شاء منهم، ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحق ([9">).
إن النصر له عوامله وأسبابه، إن تحققت جاء النصر من عند الله العزيز الحكيم، وإن تخلفت كانت الهزيمة، وأقرب مثال لذلك غزوة أحد، فقد كان النصر المؤزر حليف المسلمين في الصفحة الأولى من المعركة عندما توافرت أسباب النصر وعوامله، وكانت الهزيمة في الصفحة الثانية من المعركة عندما تخلفت هذه العوامل، وجاء الدرس بليغاً للأمة في أجيالها المتلاحقة، أنْ لا نصر للمقاتلين مع خرق قواعد النصر حتى وإن كان رسول الله r بين أظهرهم.
وهذه الأسباب لا تتخلف ولا تتغير في مضمونها وحقيقتها، وإن اختلفت صور بعضها حسب الأزمنة والإمكانات.
وبيان هذه الأسباب والعوامل أصبح ضرورياً، ونحن – الآن – أحوج ما نكون إلى تجليتها، والالتزام بها، حتى يحالفنا نصر الله ، وننهض بدورنا من جديد في ريادة العالم.
وقد عملت على تجلية هذه الأسباب من خلال بحث: ( أسباب النصر والهزيمة في ضوء القرآن الكريم ) فجاء على مقدمة وخاتمة بينهما ثلاثة مباحث :
المقدمة : ( وهي ما نحن بصدده ).
المبحث الأول : معنى : الأسباب (العوامل ) ، النصر ، الهزيمة .
المبحث الثاني : عوامل النصر .
المبحث الثالث : عوامل الهزيمة .
الخاتمة .
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خاصاً لوجهه الكريم، وأن يوفقنا لتحقيق عوامل النصر، وأن يوحّد أمتنا تحت راية دينه، إنه خير مسؤول .
عبدالله إبراهيم المغلاج
الإمارات العربية المتحدة
1428هـ/ 2008م
المبحث الأول : معنى الأسباب (العوامل) ، النصر ، الهزيمة .
أسباب (عوامل) النصر والهزيمة
الأسباب:
جمع سبب ، والسبب : كل شيء يُتوصَّل به إلى غيره ... والأصل في استعمالـه : هو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء([10">).
والعوامل:
مفردها عامل ، والأساس والقواعد والأركان والدعائم والعوامل بمعنى ([11">)، ولعل أصلها اللغوي مأخوذ من العوامل بمعنى الأرجل، قال الأزهري: عوامل الدابة: قوائمها، واحدتها عاملة ([12">). فكما أن الدابة لا تقوم بدون أرجل، فكذلك النصر لا يقوم بدون قواعده وأسسه ودعائمه؛ فتكون عوامل النصر أركانه التي لا يتحقق بدونها. وكذلك السبب لا يتحقق المسبَّب بدونه.
والنصر :
قال ابن فارس: النون والصاد والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على إتيان خَيرٍ وإيتائه. ونَصَر اللهُ المسلمين: آتاهمُ الظّفرَ على عدوِّهم، ينصرهم نَصْراً. وانتصر: انتقم، وهو منه. وأمَّا الإتيانُ فالعرب تقول: نصرت بَلَدَ كذا، إذا أتيتَه؛ ولذلك يسمَّى المطرُ نَصْراً. ونُصِرت الأرضُ، فهي منصورة. والنَّصْر: العَطاء([13">).
والنَّصر: إِعانة المظلوم، والاسم النُّصْرة، والنَّصِير: النَّاصِر، قال الله تعالى: ﴿ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40">، والجمع أَنْصَار، والأَنصار: أَنصار النبي r غَلبت عليهم الصِّفة فجرى مَجْرَى الأَسماء، وصار كأَنه اسم الحيّ؛ ولذلك أُضيف إِليه بلفظ الجمع فقيل أَنصاري.
والنُّصْرة: حُسْن المَعُونة، قال الله عز وجل: ﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [الحج: 15"> المعنى: من ظن من الكفار أَن الله لا يُظْهِر محمداً r على مَنْ خالفَه فليَخْتَنِق غَيظاً حتى يموت كَمَداً، فإِن الله عز وجل يُظهره، ولا يَنفعه غيظه وموته حَنَقاً، فالهاء في قوله: ﴿ أَن لَّن يَنصُرَهُ ﴾ للنبيّ محمد r.
والاسْتِنْصار اسْتِمْداد النَّصْر واسْتَنْصَره على عَدُوّه أَي سأَله أَن ينصُره عليه والتَّنَصُّرُ مُعالَجَة النَّصْر، والتَّناصُر التَّعاون على النَّصْر ، وتَناصَرُوا: نَصَر بعضُهم بعضاً([14">).
ونصرة الله للعبد ظاهرة، ونصرة العبد لله هو نصرته لعباده، والقيام بحفظ حدوده، ورعاية عهوده، واعتناق أحكامه، واجتناب نهيه. قال: ﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ﴾ [الحديد: 25">، ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ﴾ [محمد:7"> ([15">).
والنصر ليس محصوراً في انتصار المعارك؛ فقد يكون النصر نصر العزة والتمكين في الأرض، وقد يكون بإهلاك الكافرين والمكذبين ونجاة رسل الله وعباده المؤمنين، وقد يكون انتصار العقيدة والإيمان، وقد يكون بحماية الله عز وجل عباده المؤمنين من كيد الكافرين، وقد يكون نصر الحجة والبرهان، وكل هذه الصور داخلة في وعد الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47">.
والنصر الذي نريد أن نتكلم عنه هنا، هو النصر في المعارك.
الهزيمة:
قال ابن فارس:الهاء والزاي والميم أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على غَمْز وكَسْر؛ فالهَزْم: أن تَغْمِزَ الشيءَ بيدك فيَنْهَزمَ إلى داخل، كالقِثّاءةِ والبِطِّيخة. ومنه الهَزِيمة في الحَرْب. وغيثٌ هَزِيم: متبعِّق. وهَزِيم الرَّعدِ: صوتُه، كأنّه يتكسَّر، من قولهم: تهزَّمَ السِّقاء: يَبِس فتشقَّقَ ([16">).
والهَزِيمةُ في القتال: الكَسْرُ والفَلُّ، هَزَمَه يَهْزِمُه هَزْماً فانْهَزَمَ، وهُزِمَ القومُ في الحرب، والاسم الهَزِيمة والهِزِّيمى، وقوله عز وجل: ﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ [البقرة: 251">. معناه: كسَروهم ورَدُّوهم. وأَصل الهَزْم كَسْر الشيء وثَنْيُ بعضه على بعض([17">).
والهزيمة أيضاً قد تكون هزيمة موقف أو هزيمة معركة، وحديثنا هنا عن هزيمة المعركة.
المبحث الثاني : أسباب النصر وعوامله.
أمر الله المؤمنين بالأخذ بالأسباب التي تحقق لهم النصر، ومن ذلك قوله تعالى:﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60">. وكذلك كان النبي r يوجّه أصحابة إلى الأخذ بأسباب النصر، وكان يعمل بالأسباب الممكنة في عصره، فحفر الخندق يوم الأحزاب، ولبس المغفر يوم الفتح، وظاهَر بين درعين يوم أُحد، وأعد القادة والجنود والأموال.
وإذا كنا مأمورين بالأخذ بالأسباب فليس معنى ذلك أن نركن إليها ونغفل عن المسبب جل وعلا، لقد كان للمسلمين في غزوة حُنين درس بليغ عندما ركنوا إلى سبب من أسباب النصر، فأعجبتهم كثرتهم، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، وغفلوا عن مسبب النصر ومالكه ومنزله ، فحلّت بهم الهزيمة أول المعركة، ولم يثبت إلا رسول الله r وفئة قليلة من أصحابة، وجاء البيان القرآني ليسجل هذا الموقف لتبقى العبرة إلى آخر الزمان:﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ $ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 25-26">.
أمّا في غزوة الأحزاب ( الخندق ) فبعد أن أخذ النبي r وأصحابة بالأسباب الممكنة، جاء النصر من خارج هذه الأسباب، ومن حيث لم يحتسبه أحد، جاء النصر بسبب نُعيم بن مسعود الأشجعي الذي أسلم وقت الغزوة، فقام بالتخذيل والوقيعة بين صفوف الأحزاب، وكذلك بالريح القوية التي اقتلعت خيام المشركين وكفأت قدورهم فدبت الفوضى في الصفوف، فولَّوا مدبرين.
فمن يملك الجيش الكبير أو السلاح المتطور، يكون قد امتلك سبباً من أسباب النصر لكنه لم يمتلك النصر؛ لأن النصر من عند الله وحده، هو مالكه ومنزله : ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 126">. يهبه لمن يشاء، متى شاء وكيف شاء: ﴿ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 13">. وهو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً لعباده المؤمنين: ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47">، ومن نصره الله لا تغلبه قوة: ﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ﴾ [آل عمران: 160">.
فنصر الله لا يملكه إلا هو، ولا يهبه إلا هو، وهو يهبه لمن يشاء متى يشاء كيف يشاء، وقد وعد أن ينصر رسله والمؤمنين ، وهو ممتد في الزمان والمكان ، فهو نصر في الدنيا والآخرة، ومن ينصره الله لا يغلبه أحد، ونصر الله قريب من الصابرين، يفرح به المؤمنون، وهو محبب إليهم ، ويأتي بعد الابتلاء والتمحيص والفتن.
وقد تولى الله بيان الأسباب والعوامل الجالبة للنصر في كتابة ومن أهمها:
1- الإيمان الصادق بالله تعالى:
وهو أهم أسباب النصر؛ فقد تكفل ربنا تعالى بنصر المؤمنين، كما تكفل بنصر المرسلين عليهم السلام: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51">. بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات ([18">)؛ وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم... وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثة أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا، ويقرّ أعينهم ممن آذاهم([19">) ، قال رسول الله r : (( إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) ([20">)؛ فالمؤمنون أتباع الرسل، ونصر المؤمنين الصادقين نصر للرسل المكرمين، بل جعل الله نصر المؤمنين حقاً واجباً عليه تكرماً منه وفضلاً : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47">. وهذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، وفيه تشريف للمؤمنين، ومزيد تكرمة لعباده الصالحين ([21">).
وقد أكرم الله أهل الإيمان بتثبيت الملائكة: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12">، بل بمعيته لهم، فقال مخاطباً كفار قريش: ﴿ ... وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 19">، ومن كان الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب.
والمؤمن يثق بربه سبحانه وتعالى، ويثق بوعده بالنصر لعباده المؤمنين .
2- العمل الصالح:
وهو قرين الإيمان كما جاء في كثير من الآيات القرآنية، ومن هذه الأعمال الصالحةِ التي تحفظ تماسك الأمة وتستجلب النصر:
الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنهما يحفظان الأمة من الهلاك، فقد سألت السيدة زينب بنت جحش النبيَّ r؛ قالت: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون ؟ قال: (( نعم، إذا كَثُر الخَبَث )) ([22">). والقعود عن هذا الواجب يحجب النصر، قال r: (( يا أيها الناس، إن الله عز وجل يقول: مُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، من قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم )) ([23">).
ومن الأعمال الصالحة الجهادُ في سبيل الله، وهو سبيل العزة والنصر؛ فهو يحفظ كرامة الأمة وعزتها، ويحمي طريق الدعوة لتصل كلمة الحق إلى الآفاق، ولأن عدونا لا يطيب له عيش ولا يهنأ له بال حتى يردّنا إلى الكفر والتخلي عن ديننا الذي ارتضاه ربنا لنا، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217">. وهذا بيان لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين حتى يردوكم عن دينكم الحق إلى دينهم الباطل ([24">). فهم لا يزالون مستمرين على قتالكم وعداوتكم حتى يردّوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وتهيأ لهم منكم، وهذه الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين([25">). فهم لا يتركونكم وإن تركتموهم أنتم، حتى يحققوا رغبتهم فيكم إن استطاعوا وهي اتباع أهوائهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...﴾. [البقرة: 120">، وإن أوقفوا المواجهة المسلّحة فسيلجأون إلى مواجهة من نوع آخر؛ ثقافية، اقتصادية ...
ومن ذلك أيضاً: الإكثار من النوافل؛ فإنها طريق لولاية الله تعالى، ومن تولاه الله فهو منصور لا محالة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: (( إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته )) ([26">). وولي الله: هو العالم بدين الله تعالى، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته.
3- الإخلاص:
وهذا مطلب عام في سائر الطاعات، لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، والجهاد في سبيل الله ينبغي ألا يكون إلا في سبيل الله، أي خالصاً لوجه الله تعالى، ولإعلاء كلمة الله، فعن أبي أمامة الباهلي قال: جاء رجل إلى النبي r فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله: (( لا شيء له )). فأعادها ثلاث مرات. يقول له رسول الله (( لا شيء له )) . ثم قال: (( إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه)) ([27">).
وعن أبي موسى الأشعري قال: جاء رجل إلى النبي rفقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟ قال: (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) ([28">).
والمراد بكلمة الله: دعوة الله إلى الإسلام؛ فيكون أصل الباعث للقتال: طلب إعلاء كلمة الله ([29">). ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ﴾ [النساء: 76">.
وفي قول النبي r: (( لا هِجْرة بَعْد الفَتْح ولكن جهادٌ ونِيَّة )) يقول ابن الأثير الجزري: الجِهاد : مُحارَبة الكُفار وهو المُبَالَغة واسْتِفْراغ ما في الوُسْع والطَّاقة من قول أو فعْل... والمراد بالنية إخْلاصُ العمَل للّه تعالى أي: إنَّه لم يَبْقَ بعد فتْح مكة هِجْرة لأنَّها قد صَارَتْ دار إسْلام، وإنما هو الإخْلاص في الجهاد وقِتال الكُفَّار ([30">).
وقد تكفل الله تعالى أن ينصر جنده، الذين صحت نسبتهم إليه بإخلاصهم في جهادهم: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ $ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ $ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171-173">.
والمراد بجند الله حزبه، وهم الرسل وأتباعهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51">. وهذا الوعد لهم بالنصر والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم على الأعداء وغلبته لهم، فخرج الكلام مخرج الغالب، على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال، وفي كل موطن، كما قال سبحانه: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128"> ([31">).
4- التقوى:
التقوى هي الملَكة التي تحمل على فعل الطاعة واجتناب المعصية؛ فهي واقية من عقاب الله تعالى بطاعته ([32">)، والتقوى وصية الله إلى الأولين والآخرين: ﴿... وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ ... ﴾ [النساء: 131">. كما أوصى بها النبي r في كل موطن، قال r: (( اتق الله حيثما كنت )) ([33">). وأوصى بها قادتَه، قال بريدة: كان رسول الله r إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومَن معه مِن المسلمين خيراً، ثم قال: (( اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً،...)) ([34">).
وكذلك كان يوصي الخلفاء قادة الجيوش، كما جاء في وصية عمر لسعد رضي الله عنهما: أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش، أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة... ([35">).
وقد أمدّ الله المؤمنين في غزوة بدر ﴿ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ﴾ [آل عمران: 124">، ثم وعد لهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى حثاً لهم عليهما وتقوية لقلوبهم ([36">) فقال: ﴿ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 125">.
فالعاقبة المحمودة لأهل التقوى([37">)، كما قال تعالى: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128">.
وهي تسلمهم من شر الأشرار وكيد الفجّار ([38">): ﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾ [آل عمران: 120">.
وتكسبهم معية الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194">. وهذا أمر لهم بطاعة الله وتقواه، وإخباره بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة([39">)؛ فالمراد بالمعية: الولاية الدائمة ([40">).
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾[التوبة: 123">. فالإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى، والشهادة بكونهم من زمرة المتقين([41">)، يقول لهم: أيقنوا عند قتالكم إياهم أن الله معكم وهو ناصركم عليهم، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه([42">). ومن كان الله معه لم يقم له شيء([43">).
5- الصبر والمصابرة:
أمر الله بالصبر، وأخبر أنه خير لأهله، وجاء ذلك بعدة مؤكِّدات قال تعالى: ﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ [ النحل: 126 ">، كما أخبر بمحبته للصابرين ﴿ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146">. وبمعيته لهم: ﴿ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46">. ومن صفات المتقين صبرهم على الابتلاء بالمال والجسد ولقاء العدو كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ [البقرة: 177">؛ فقد جمعت هذه الآية من أنواع الصبر ما يكون في المال من الفقر والشدة: فِي الْبَأْسَاء. وفي الجسد من المرض والزمانة: والضَّرَّاء . وفي مواطن الحرب وقت مجاهدة العدو: وَحِينَ الْبَأْسِ([44">).
والصابر حين البأس منصور لأن الله معه، وهي معية نصره وتوفيقه حتماً ([45">)، مهما كانت فئتهم قليلة وفئة أعدائهم كثيرة، وقد أكد الله لنا هذا على لسان طالوت وجنوده : ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249">، فتوجهوا إلى الله تعالى أن يلهمهم الصبر والثبات والنصر: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250">.
ولقد راعوا في الدعاء ترتيباً بديعاً حيث قدموا سؤال إفراغ الصبر الذي هو ملاك الأمر، ثم سؤال تثبيت القدم المتفرع عليه، ثم سؤال النصر الذي هو الغاية القصوى([46">).
فالصبر يلازم النصر، كما قال r: (( واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا )) ([47">).
وقال تعالى: ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66">، فشرط فيهم الصبر من أجل الغلبة، وهذا تخفيف مما فرض عليهم أول الأمر وهو أن يصمد الواحد مقابل عشرة : ﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنفال: 65">.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200">.
فأمرهم بالصبر: وهو حال الصابر في نفسه، والمصابرة: وهي حاله في الصبر مع خصمه، والمرابطة: وهي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها فقال: ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ([48">).
6- الثبات عند لقاء العدو:
الثبات من توابع الصبر ومن مستلزمات النصر، فأثبتُ الفريقين أغلبُهما، وأعظم ما تشتد الحاجة إليه عندما يضطرب الأمر، ويدبّ الذعر، وتنتشر الشائعات، وتشيع الهزيمة في نفوس المقاتلين، وقد جاء الأمر به عند اللقاء مع العدو، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ [الأنفال: 45">. وهذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء([49">) أي: إذا حاربتم جماعة من الكفرة فاثبتوا للقائهم في مواطن الحرب([50">)، ولا تجْبُنوا عنهم، وهذا لا ينافي الرخصة في قوله: ﴿ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ ﴾ [الأنفال: 16">، فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة، والرخصة هي في حال الضرورة، وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرف والتحيّز.
ثم أمر بالذكر؛ فإن ذكر الله يعين على الثبات في الشدائد، وقيل المعنى: اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان([51">).
وقد جاء في دعاء طالوت وأصحابة، لما برزوا لجالوت وجنوده، طلبُ الثبات: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250">. فكانت العاقبة لهم: ﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 251">.
ومن دعاء المجاهدين - أصحاب الأنبياء- بالثبات: ﴿ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147">، فكانت الغلبة لهم: ﴿ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 147">.
كما وعد الله من ينصر دينه بأن ينصره ويثبته، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7">. أي: يقوِّكم عليهم ويجرِّئكم حتى لا تولوا عنهم وإن كثر عددهم وقل عددكم([52">). وتثبيت الأقدام عند القتال، أو على الإسلام أو على الصراط. أو المراد: تثبيت القلوب بالأمن؛ فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب، وهذا كقوله تعالى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [الأنفال: 12">، فأثبت هناك واسطة ونفاها هنا، كقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ﴾ [السجدة: 11">، ثم نفاها بقوله: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ [الروم: 40"> ([53">).
وكما يكون الثبات حسياً يكون معنوياً، فيثبت المقاتل أمام شائعات العدو وأراجيفهم بما آتاه الله من قوة إيمان وسلامة عقيدة.
ومما يعين على الثبات ذكر الله والدعاء .
7-8- الاتصال بالله بالذكر والدعاء:
جاء الأمر بذكر الله كثيراً عند ملاقاة الأعداء في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ [الأنفال: 45">، فأمر بالثبات وأمر بما يعين عليه وهو الذكر، فإن ذكر الله يعين على الثبات في الشدائد، ويمنح الطمأنينة والسكينة حيث يشعر المقاتل بأنه لا يقاتل وحده، بل الله معه، فيثبت القلب على اليقين ويثبت اللسان على الذكر، وهذه الحالة لا تكون إلا عن قوة المعرفة، واتقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة في الناس([54">).
قال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونون؛ عند الضراب بالسيوف ([55">).
وعن كعب الأحبار قال: ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ [الأنفال: 45">([56">).
وقال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا، يقول الله عز وجل: ﴿ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً ﴾ [آل عمران: 41">، ولرخص للرجل يكون في الحرب، يقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ [الأنفال: 45"> ([57">).
وفي هذا تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله تعالى، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد، ويقبل إليه بكليته، فارغ البال، واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال ([58">).
وهذا كله على تفسير الذكر بالذكر المطلق، وفيه قول آخر وهو تفسيره بالدعاء، قال ابن الجوزي: ﴿ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنه الدعاء والنصر، والثاني: ذكر الله على الإطلاق ([59">).
وعلى تفسير الذكر بالدعاء جاء تفسيره عند الطبري وغيره، ﴿ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً ﴾ يقول : وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره([60">).
وقد جعل الله الدعاء والاستغاثة به سبباً للثبات والنصر على الأعداء؛ فقد جاء في دعاء طالوت وأصحابة، لما برزوا لجالوت وجنوده: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250">. فكان عنده النصر والظفر: ﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 251">.
ومن دعاء المجاهدين أيضاً: ﴿ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147">، فكانت العاقبة لهم: ﴿ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 147">.
كما جعله سبباً للمدد والغوث من الله: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9">.
وقد قضى النبي r ليلة غزوة بدر بالدعاء والاستنصار بالله والاستغاثة به، وهو في قبّته: (( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم ))، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله، ألحَحْت على ربك، وهو يَثِب في الدرع، فخرج وهو يقول:﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 45"> ([61">).
وكان رسول الله rإذا غزا قال: (( اللهم أنت عضُدي ونصيري، بك أَحول، وبك أَصول، وبك أُقاتل )) ([62">).
وكان إذا خاف قوماً قال: (( اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم )) ([63">).
كما أن التحام الصفوف سبب من أسباب استجابة الدعاء، قال r: (( ثنتان لا تردّان أو قلّما تردّان : الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً )) ([64">).
إن ذكر الله ودعاءه عند لقاء العدو، يؤدي وظائف شتى: إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب، والثقة بالله الذي ينصر أولياءه، ويهلك أعداءه، وهو في الوقت ذاته استحضار لحقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لله، لتكون كلمة الله هي العليا، لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي. كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف ([65">).
9- التوكل على الله وحده:
التوكل على الله يمنح المؤمن قوة لا تعادلها قوة، لذلك يكون النصر حليف المتوكلين، قال تعالى: ﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160">.
والتوكل هو: قطع النظر عن الأسباب بعد تهيئة الأسباب([66">). كما قال r: (( اعقلها وتوكل )) ([67">)؛ فهو اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور مع إتيان الأسباب المشروعة؛ إذ سنة الله جارية بترتيب النتائج على الأسباب، ولكن الأسباب ليست هي التي تنشئ النتائج.
أما ترك الأسباب فهو تواكل، وليس من التوكل في شيء، وهو مخالف للهدي النبوي، فقد ثبت أن النبي r ظاهَر في أُحد بين درعين، ودخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر([68">)، وأقعد الرماة على فم الشعب في أُحد ، وخندقَ حول المدينة يوم الأحزاب، وأخذ بكافة الأسباب الممكنة وهوسيد المتوكلين r.
وقد أخبرنا الله عن المقاتلين في أعقاب غزوة أُحد عندما ﴿ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173">. أي: محسبنا الله وكافياً، ونعم الموكول إليه الله([69">)؛ فكانت النتيجة: ﴿ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174">.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد r حين قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ([70">).
10- نصرة دين الله تعالى:
نصر الله يتحقق بنصرة شريعته؛ باتباع أوامره واجتناب نواهيه؛ بالعمل بدينه، وتحكيمه في الحياة، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، ونصرة نبيه r، وأوليائه ([71">)، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7">.
ينصركم بنصركم عليهم، ويظفركم بهم؛ فإنه ناصر دينه وأولياءه([72">). ويثبت أقدامكم في القيام بحقوق الإسلام، والمجاهدة مع الكفار([73">).
ويدل على هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40">. أي: وليعينن الله من يقاتل في سبيله لتكون كلمته العليا على عدوه؛ فنصر الله عبده: معونته إياه ونصر العبد ربه: جهاده في سبيله لتكون كلمته العليا. إن الله لقوي على نصر من جاهد في سبيله من أهل ولايته وطاعته، عزيز في ملكه، منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب([74">)، ومن كان القوي العزيز ناصره فمن يقهره؟
ولقد أنجز الله - عز سلطانه – وعده، حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم([75">).
وهذا النصر لمن ينصر الله في سائر الأزمان؛ لذلك بيّن صفة ناصريه بقوله: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41 ">، وهي أوصافٌ يَتَحَلَّى بها المؤمنُ بعدَ أن يمكّن الله له في الأرضِ، فيَزيدُه النصرُ والتمكينُ قوةً في دين الله وتَمسُّكاً بشرعته ومنهاجه وآدابه.
11- طاعة الله وطاعة رسوله r :
أمر الله تعالى المؤمنين بطاعته فيما يأمرهم به، وطاعة رسوله r فيما يرشدهم إليه، وحذر من مخالفة رسوله r فقال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20"> أي لا تتولوا عن الرسول r، فإن المراد هو الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه، وذكَر طاعته تعالى للتمهيد والتنبيه على أن طاعته تعالى في طاعة رسوله r : ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ﴾ [النساء: 80"> وقوله تعالى: ﴿ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ جملة حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقاً، لا لتقييد النهي عنه بحال السماع، أي: لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته، سماع فهم وإذعان([76">)؛ لأن التولي عنه ومخالفته معصية تحبط العمل: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33">. قال الطبري: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في أمرهما ونهيهما، ولا تبطلوا بمعصيتكم إياهما وكفركم بربكم ثواب أعمالكم، فإن الكفر بالله يحبط السالف من العمل الصالح([77">).
كما جعله الله من عوامل النصر التي ذكرها في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ $ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45-46">،؛ لأن الطاعة توحّد الصف، وتمحو الخلاف ، وتُكسب القوة في مواجهة العدو.
وكما أمرنا الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله rأمرنا بطاعة أولي الأمر من المؤمنين، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 59">. وأولو الأمر هم: العلماء والأمراء؛ فتجب طاعتهم فيما وافق الحق([78">)، فالطاعة تكون لله ولرسوله r، وتكون للقيادة المؤمنة، « إنها طاعة القيادة العليا فيها، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها، وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً » ([79">). وقد جاءت الوصية بالطاعة والتحذير من المعصية في كثير من وصايا الخلفاء لأمراء الجيوش([80">).
يقول الحافظ ابن كثير: وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم ببركة الرسول rوطاعته فيما أمرهم فتحوا
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على الرسول القائد سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد: فإن الناظر في حال المسلمين اليوم يصاب بالإحباط لما يرى من تداعي الأمم على هذه الأمة المستضعفة المشتتة النائمة، وإن صحَت فهي حائرة لا تدري أين تتوجه، ولا كيف تتخلص مما هي فيه، وكتاب ربها يناديها: ﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴾ [التكوير : 26">.
إنها الفتنة التي تدع الحليم حيران، لكن المؤمنين الصادقين ينظرون من وراء أسجاف هذه الفتن، يستشفّون المستقبل بنظرة تفاؤلية، ينتظرون بزوغ الفجر بعد هذا الليل الثقيل، فهذا الحال وإن طال لكنه لا يدوم، وكلما اشتدت الأزمات آذنت بقرب الفرَج، و: ﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا ً﴾ [الشرح : 6">. و: (( لن يغلب عسر يسرين )) ([1">)، وإن المنح بعد المحن؛ لأن المستقبل لهذا الدين، بعز عزيز أو بذلّ ذليل، كما أخبرنا النبي r بذلك: (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزّاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذلّ الله به الكفر )) ([2">).﴿ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [ الصف: 8">.
وإن هذا الفجر الذي طال انتظاره قريب إن شاء الله تعالى، ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ $ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم : 4-5">. لكنه يحتاج إلى التضحية، أن نضحي بأهوائنا وشهواتنا، وأن نعود إلى ديننا فننصر ربنا بالتزامنا به والمحافظة على حدوده؛ لينصرنا ربنا تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40">.
إنها سنّة من سنن الله تعالى في التمحيص والابتلاء، ودرس من دروس التربية القرآنية، لتتقبل النفس الحق وتدافع عنه وتسترخص في إقامته كل غال ونفيس.
لقد ربّى النبي r أصحابة على تقبّل هذه السنن ودربهم عليها؛ فقد جاء خباب بن الأرت رضي الله عنه يسأل النبي r أن يطلب لهم النصر من الله تعالى؛ لأنهم لم يطيقوا ما يلقونه من قريش، قال خبّاب : شكونا إلى رسول الله rوهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له : ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا ؟ قال: (( كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه! ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه! والله ليتمَّن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون )) ([3">) إنه استعجال النتائج والثمرات قبل الأوان.
ولما نزلت بمكة: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 45">، قال عمر رضي الله عنه: أي جمع هذا ؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله rوبيده السيف مصلتاً وهو يقول: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ ([4">). لقد جاء تأويلها بعد قرابة اثني عشر عاماً من نزولها.
وهل أمِنوا بعد أن فارقوا مكة وهاجروا إلى المدينة؟ لقد رمتهم العرب عن قوس واحدة، فزاد خوفهم، فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال : لما قدم رسول r الله وأصحابة المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أتُرون أنّا نعيش حيث نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله!! فنزلت: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55"> ([5">). في هذه الظروف جاءت الآيات تعِدُهم بالاستخلاف في الأرض والتمكين لدينهم الذي ارتضاه الله لهم.
إن الابتلاء سنة من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول، على اختلاف الزمان والمكان، كما أن الابتلاء قد يكون عقوبة على التقصير والإهمال والتفريط، والشواهد لهذا كثيرة، كقوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ... ﴾ [النساء: 62">، وقوله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ... ﴾ [آل عمران: 165"> أي: بما عصيتم([6">).
وقد يكون الابتلاء للتمحيص والطهارة والتنقية والترقية، كما جرت هذه السنة على من سبقنا من أمم الأرض، قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214">. أي: أم حسبتم أنكم - أيها المؤمنون بالله ورسله - تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتلوا واختُبروا به من البأساء وهو: شدة الحاجة والفاقة. والضراء، وهي: العلل والأوصاب. ولم تزلزلوا زلزالهم، يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهد حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟
ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريب، وأنه معليهم على عدوهم، ومظهرهم عليه، فنجز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا. وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل - نزلت يوم الخندق حين لقي المؤمنون ما لقوا من شدة الجهد من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ ([7">).
فالابتلاء قد يكون بالحرب وقد يكون بنقص الأموال والأنفس والثمرات: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155">. وهذه الابتلاءات كلها تعود بالخير العظيم على المؤمن.
« ففي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات، فليس أكرم في النفس من أن يعزّ عليها الحق الذي تؤمن به، حتى تجاهد في سبيله، فتَقتُل وتُقتَل، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه، ولا تستطيع الحياة بدونه، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله.
ويريد ليربيهم، فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية، مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه، ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف، ويكمل كل نقص، وينفي كل زغَل ودخَل، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة، وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد، والتطلع إلى وجه الله ورضاه، فترجح هذه وتشيل تلك، ويعلم الله من هذه النفوس أنها خُيّرت فاختارت، وأنها تربت فعرفت، وأنها لا تندفع بلا وعي، ولكنها تقدر وتختار.
ويريد ليصلحهم، ففي معاناة الجهاد في سبيل الله، والتعرض للموت في كل جولة، ما يعوِّد النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه، وهو هيّن هيّن عند من يعتاد ملاقاته، سواء سلم منه أو لاقاه.
والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئاً يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام، وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح » ([8">).
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ﴾ [ محمد: 4">. أي: ولو يشاء الله لانتصر من هؤلاء المشركين بعقوبة منه لهم عاجلة، وكفاكم ذلك كله، ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار منهم، وعقوبتهم عاجلاً إلا بأيديكم أيها المؤمنون؛ ليختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين، ويبلوهم بكم فيعاقب بأيديكم من شاء منهم، ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحق ([9">).
إن النصر له عوامله وأسبابه، إن تحققت جاء النصر من عند الله العزيز الحكيم، وإن تخلفت كانت الهزيمة، وأقرب مثال لذلك غزوة أحد، فقد كان النصر المؤزر حليف المسلمين في الصفحة الأولى من المعركة عندما توافرت أسباب النصر وعوامله، وكانت الهزيمة في الصفحة الثانية من المعركة عندما تخلفت هذه العوامل، وجاء الدرس بليغاً للأمة في أجيالها المتلاحقة، أنْ لا نصر للمقاتلين مع خرق قواعد النصر حتى وإن كان رسول الله r بين أظهرهم.
وهذه الأسباب لا تتخلف ولا تتغير في مضمونها وحقيقتها، وإن اختلفت صور بعضها حسب الأزمنة والإمكانات.
وبيان هذه الأسباب والعوامل أصبح ضرورياً، ونحن – الآن – أحوج ما نكون إلى تجليتها، والالتزام بها، حتى يحالفنا نصر الله ، وننهض بدورنا من جديد في ريادة العالم.
وقد عملت على تجلية هذه الأسباب من خلال بحث: ( أسباب النصر والهزيمة في ضوء القرآن الكريم ) فجاء على مقدمة وخاتمة بينهما ثلاثة مباحث :
المقدمة : ( وهي ما نحن بصدده ).
المبحث الأول : معنى : الأسباب (العوامل ) ، النصر ، الهزيمة .
المبحث الثاني : عوامل النصر .
المبحث الثالث : عوامل الهزيمة .
الخاتمة .
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خاصاً لوجهه الكريم، وأن يوفقنا لتحقيق عوامل النصر، وأن يوحّد أمتنا تحت راية دينه، إنه خير مسؤول .
عبدالله إبراهيم المغلاج
الإمارات العربية المتحدة
1428هـ/ 2008م
المبحث الأول : معنى الأسباب (العوامل) ، النصر ، الهزيمة .
أسباب (عوامل) النصر والهزيمة
الأسباب:
جمع سبب ، والسبب : كل شيء يُتوصَّل به إلى غيره ... والأصل في استعمالـه : هو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء([10">).
والعوامل:
مفردها عامل ، والأساس والقواعد والأركان والدعائم والعوامل بمعنى ([11">)، ولعل أصلها اللغوي مأخوذ من العوامل بمعنى الأرجل، قال الأزهري: عوامل الدابة: قوائمها، واحدتها عاملة ([12">). فكما أن الدابة لا تقوم بدون أرجل، فكذلك النصر لا يقوم بدون قواعده وأسسه ودعائمه؛ فتكون عوامل النصر أركانه التي لا يتحقق بدونها. وكذلك السبب لا يتحقق المسبَّب بدونه.
والنصر :
قال ابن فارس: النون والصاد والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على إتيان خَيرٍ وإيتائه. ونَصَر اللهُ المسلمين: آتاهمُ الظّفرَ على عدوِّهم، ينصرهم نَصْراً. وانتصر: انتقم، وهو منه. وأمَّا الإتيانُ فالعرب تقول: نصرت بَلَدَ كذا، إذا أتيتَه؛ ولذلك يسمَّى المطرُ نَصْراً. ونُصِرت الأرضُ، فهي منصورة. والنَّصْر: العَطاء([13">).
والنَّصر: إِعانة المظلوم، والاسم النُّصْرة، والنَّصِير: النَّاصِر، قال الله تعالى: ﴿ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40">، والجمع أَنْصَار، والأَنصار: أَنصار النبي r غَلبت عليهم الصِّفة فجرى مَجْرَى الأَسماء، وصار كأَنه اسم الحيّ؛ ولذلك أُضيف إِليه بلفظ الجمع فقيل أَنصاري.
والنُّصْرة: حُسْن المَعُونة، قال الله عز وجل: ﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [الحج: 15"> المعنى: من ظن من الكفار أَن الله لا يُظْهِر محمداً r على مَنْ خالفَه فليَخْتَنِق غَيظاً حتى يموت كَمَداً، فإِن الله عز وجل يُظهره، ولا يَنفعه غيظه وموته حَنَقاً، فالهاء في قوله: ﴿ أَن لَّن يَنصُرَهُ ﴾ للنبيّ محمد r.
والاسْتِنْصار اسْتِمْداد النَّصْر واسْتَنْصَره على عَدُوّه أَي سأَله أَن ينصُره عليه والتَّنَصُّرُ مُعالَجَة النَّصْر، والتَّناصُر التَّعاون على النَّصْر ، وتَناصَرُوا: نَصَر بعضُهم بعضاً([14">).
ونصرة الله للعبد ظاهرة، ونصرة العبد لله هو نصرته لعباده، والقيام بحفظ حدوده، ورعاية عهوده، واعتناق أحكامه، واجتناب نهيه. قال: ﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ﴾ [الحديد: 25">، ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ﴾ [محمد:7"> ([15">).
والنصر ليس محصوراً في انتصار المعارك؛ فقد يكون النصر نصر العزة والتمكين في الأرض، وقد يكون بإهلاك الكافرين والمكذبين ونجاة رسل الله وعباده المؤمنين، وقد يكون انتصار العقيدة والإيمان، وقد يكون بحماية الله عز وجل عباده المؤمنين من كيد الكافرين، وقد يكون نصر الحجة والبرهان، وكل هذه الصور داخلة في وعد الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47">.
والنصر الذي نريد أن نتكلم عنه هنا، هو النصر في المعارك.
الهزيمة:
قال ابن فارس:الهاء والزاي والميم أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على غَمْز وكَسْر؛ فالهَزْم: أن تَغْمِزَ الشيءَ بيدك فيَنْهَزمَ إلى داخل، كالقِثّاءةِ والبِطِّيخة. ومنه الهَزِيمة في الحَرْب. وغيثٌ هَزِيم: متبعِّق. وهَزِيم الرَّعدِ: صوتُه، كأنّه يتكسَّر، من قولهم: تهزَّمَ السِّقاء: يَبِس فتشقَّقَ ([16">).
والهَزِيمةُ في القتال: الكَسْرُ والفَلُّ، هَزَمَه يَهْزِمُه هَزْماً فانْهَزَمَ، وهُزِمَ القومُ في الحرب، والاسم الهَزِيمة والهِزِّيمى، وقوله عز وجل: ﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ [البقرة: 251">. معناه: كسَروهم ورَدُّوهم. وأَصل الهَزْم كَسْر الشيء وثَنْيُ بعضه على بعض([17">).
والهزيمة أيضاً قد تكون هزيمة موقف أو هزيمة معركة، وحديثنا هنا عن هزيمة المعركة.
المبحث الثاني : أسباب النصر وعوامله.
أمر الله المؤمنين بالأخذ بالأسباب التي تحقق لهم النصر، ومن ذلك قوله تعالى:﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60">. وكذلك كان النبي r يوجّه أصحابة إلى الأخذ بأسباب النصر، وكان يعمل بالأسباب الممكنة في عصره، فحفر الخندق يوم الأحزاب، ولبس المغفر يوم الفتح، وظاهَر بين درعين يوم أُحد، وأعد القادة والجنود والأموال.
وإذا كنا مأمورين بالأخذ بالأسباب فليس معنى ذلك أن نركن إليها ونغفل عن المسبب جل وعلا، لقد كان للمسلمين في غزوة حُنين درس بليغ عندما ركنوا إلى سبب من أسباب النصر، فأعجبتهم كثرتهم، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، وغفلوا عن مسبب النصر ومالكه ومنزله ، فحلّت بهم الهزيمة أول المعركة، ولم يثبت إلا رسول الله r وفئة قليلة من أصحابة، وجاء البيان القرآني ليسجل هذا الموقف لتبقى العبرة إلى آخر الزمان:﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ $ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 25-26">.
أمّا في غزوة الأحزاب ( الخندق ) فبعد أن أخذ النبي r وأصحابة بالأسباب الممكنة، جاء النصر من خارج هذه الأسباب، ومن حيث لم يحتسبه أحد، جاء النصر بسبب نُعيم بن مسعود الأشجعي الذي أسلم وقت الغزوة، فقام بالتخذيل والوقيعة بين صفوف الأحزاب، وكذلك بالريح القوية التي اقتلعت خيام المشركين وكفأت قدورهم فدبت الفوضى في الصفوف، فولَّوا مدبرين.
فمن يملك الجيش الكبير أو السلاح المتطور، يكون قد امتلك سبباً من أسباب النصر لكنه لم يمتلك النصر؛ لأن النصر من عند الله وحده، هو مالكه ومنزله : ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 126">. يهبه لمن يشاء، متى شاء وكيف شاء: ﴿ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 13">. وهو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً لعباده المؤمنين: ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47">، ومن نصره الله لا تغلبه قوة: ﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ﴾ [آل عمران: 160">.
فنصر الله لا يملكه إلا هو، ولا يهبه إلا هو، وهو يهبه لمن يشاء متى يشاء كيف يشاء، وقد وعد أن ينصر رسله والمؤمنين ، وهو ممتد في الزمان والمكان ، فهو نصر في الدنيا والآخرة، ومن ينصره الله لا يغلبه أحد، ونصر الله قريب من الصابرين، يفرح به المؤمنون، وهو محبب إليهم ، ويأتي بعد الابتلاء والتمحيص والفتن.
وقد تولى الله بيان الأسباب والعوامل الجالبة للنصر في كتابة ومن أهمها:
1- الإيمان الصادق بالله تعالى:
وهو أهم أسباب النصر؛ فقد تكفل ربنا تعالى بنصر المؤمنين، كما تكفل بنصر المرسلين عليهم السلام: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51">. بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات ([18">)؛ وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم... وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثة أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا، ويقرّ أعينهم ممن آذاهم([19">) ، قال رسول الله r : (( إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) ([20">)؛ فالمؤمنون أتباع الرسل، ونصر المؤمنين الصادقين نصر للرسل المكرمين، بل جعل الله نصر المؤمنين حقاً واجباً عليه تكرماً منه وفضلاً : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47">. وهذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، وفيه تشريف للمؤمنين، ومزيد تكرمة لعباده الصالحين ([21">).
وقد أكرم الله أهل الإيمان بتثبيت الملائكة: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12">، بل بمعيته لهم، فقال مخاطباً كفار قريش: ﴿ ... وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 19">، ومن كان الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب.
والمؤمن يثق بربه سبحانه وتعالى، ويثق بوعده بالنصر لعباده المؤمنين .
2- العمل الصالح:
وهو قرين الإيمان كما جاء في كثير من الآيات القرآنية، ومن هذه الأعمال الصالحةِ التي تحفظ تماسك الأمة وتستجلب النصر:
الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنهما يحفظان الأمة من الهلاك، فقد سألت السيدة زينب بنت جحش النبيَّ r؛ قالت: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون ؟ قال: (( نعم، إذا كَثُر الخَبَث )) ([22">). والقعود عن هذا الواجب يحجب النصر، قال r: (( يا أيها الناس، إن الله عز وجل يقول: مُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، من قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم )) ([23">).
ومن الأعمال الصالحة الجهادُ في سبيل الله، وهو سبيل العزة والنصر؛ فهو يحفظ كرامة الأمة وعزتها، ويحمي طريق الدعوة لتصل كلمة الحق إلى الآفاق، ولأن عدونا لا يطيب له عيش ولا يهنأ له بال حتى يردّنا إلى الكفر والتخلي عن ديننا الذي ارتضاه ربنا لنا، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217">. وهذا بيان لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين حتى يردوكم عن دينكم الحق إلى دينهم الباطل ([24">). فهم لا يزالون مستمرين على قتالكم وعداوتكم حتى يردّوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وتهيأ لهم منكم، وهذه الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين([25">). فهم لا يتركونكم وإن تركتموهم أنتم، حتى يحققوا رغبتهم فيكم إن استطاعوا وهي اتباع أهوائهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...﴾. [البقرة: 120">، وإن أوقفوا المواجهة المسلّحة فسيلجأون إلى مواجهة من نوع آخر؛ ثقافية، اقتصادية ...
ومن ذلك أيضاً: الإكثار من النوافل؛ فإنها طريق لولاية الله تعالى، ومن تولاه الله فهو منصور لا محالة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: (( إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته )) ([26">). وولي الله: هو العالم بدين الله تعالى، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته.
3- الإخلاص:
وهذا مطلب عام في سائر الطاعات، لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، والجهاد في سبيل الله ينبغي ألا يكون إلا في سبيل الله، أي خالصاً لوجه الله تعالى، ولإعلاء كلمة الله، فعن أبي أمامة الباهلي قال: جاء رجل إلى النبي r فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله: (( لا شيء له )). فأعادها ثلاث مرات. يقول له رسول الله (( لا شيء له )) . ثم قال: (( إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه)) ([27">).
وعن أبي موسى الأشعري قال: جاء رجل إلى النبي rفقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟ قال: (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) ([28">).
والمراد بكلمة الله: دعوة الله إلى الإسلام؛ فيكون أصل الباعث للقتال: طلب إعلاء كلمة الله ([29">). ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ﴾ [النساء: 76">.
وفي قول النبي r: (( لا هِجْرة بَعْد الفَتْح ولكن جهادٌ ونِيَّة )) يقول ابن الأثير الجزري: الجِهاد : مُحارَبة الكُفار وهو المُبَالَغة واسْتِفْراغ ما في الوُسْع والطَّاقة من قول أو فعْل... والمراد بالنية إخْلاصُ العمَل للّه تعالى أي: إنَّه لم يَبْقَ بعد فتْح مكة هِجْرة لأنَّها قد صَارَتْ دار إسْلام، وإنما هو الإخْلاص في الجهاد وقِتال الكُفَّار ([30">).
وقد تكفل الله تعالى أن ينصر جنده، الذين صحت نسبتهم إليه بإخلاصهم في جهادهم: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ $ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ $ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171-173">.
والمراد بجند الله حزبه، وهم الرسل وأتباعهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51">. وهذا الوعد لهم بالنصر والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم على الأعداء وغلبته لهم، فخرج الكلام مخرج الغالب، على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال، وفي كل موطن، كما قال سبحانه: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128"> ([31">).
4- التقوى:
التقوى هي الملَكة التي تحمل على فعل الطاعة واجتناب المعصية؛ فهي واقية من عقاب الله تعالى بطاعته ([32">)، والتقوى وصية الله إلى الأولين والآخرين: ﴿... وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ ... ﴾ [النساء: 131">. كما أوصى بها النبي r في كل موطن، قال r: (( اتق الله حيثما كنت )) ([33">). وأوصى بها قادتَه، قال بريدة: كان رسول الله r إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومَن معه مِن المسلمين خيراً، ثم قال: (( اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً،...)) ([34">).
وكذلك كان يوصي الخلفاء قادة الجيوش، كما جاء في وصية عمر لسعد رضي الله عنهما: أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش، أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة... ([35">).
وقد أمدّ الله المؤمنين في غزوة بدر ﴿ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ﴾ [آل عمران: 124">، ثم وعد لهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى حثاً لهم عليهما وتقوية لقلوبهم ([36">) فقال: ﴿ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 125">.
فالعاقبة المحمودة لأهل التقوى([37">)، كما قال تعالى: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128">.
وهي تسلمهم من شر الأشرار وكيد الفجّار ([38">): ﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾ [آل عمران: 120">.
وتكسبهم معية الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194">. وهذا أمر لهم بطاعة الله وتقواه، وإخباره بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة([39">)؛ فالمراد بالمعية: الولاية الدائمة ([40">).
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾[التوبة: 123">. فالإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى، والشهادة بكونهم من زمرة المتقين([41">)، يقول لهم: أيقنوا عند قتالكم إياهم أن الله معكم وهو ناصركم عليهم، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه([42">). ومن كان الله معه لم يقم له شيء([43">).
5- الصبر والمصابرة:
أمر الله بالصبر، وأخبر أنه خير لأهله، وجاء ذلك بعدة مؤكِّدات قال تعالى: ﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ [ النحل: 126 ">، كما أخبر بمحبته للصابرين ﴿ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146">. وبمعيته لهم: ﴿ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46">. ومن صفات المتقين صبرهم على الابتلاء بالمال والجسد ولقاء العدو كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ [البقرة: 177">؛ فقد جمعت هذه الآية من أنواع الصبر ما يكون في المال من الفقر والشدة: فِي الْبَأْسَاء. وفي الجسد من المرض والزمانة: والضَّرَّاء . وفي مواطن الحرب وقت مجاهدة العدو: وَحِينَ الْبَأْسِ([44">).
والصابر حين البأس منصور لأن الله معه، وهي معية نصره وتوفيقه حتماً ([45">)، مهما كانت فئتهم قليلة وفئة أعدائهم كثيرة، وقد أكد الله لنا هذا على لسان طالوت وجنوده : ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249">، فتوجهوا إلى الله تعالى أن يلهمهم الصبر والثبات والنصر: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250">.
ولقد راعوا في الدعاء ترتيباً بديعاً حيث قدموا سؤال إفراغ الصبر الذي هو ملاك الأمر، ثم سؤال تثبيت القدم المتفرع عليه، ثم سؤال النصر الذي هو الغاية القصوى([46">).
فالصبر يلازم النصر، كما قال r: (( واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا )) ([47">).
وقال تعالى: ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66">، فشرط فيهم الصبر من أجل الغلبة، وهذا تخفيف مما فرض عليهم أول الأمر وهو أن يصمد الواحد مقابل عشرة : ﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنفال: 65">.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200">.
فأمرهم بالصبر: وهو حال الصابر في نفسه، والمصابرة: وهي حاله في الصبر مع خصمه، والمرابطة: وهي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها فقال: ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ([48">).
6- الثبات عند لقاء العدو:
الثبات من توابع الصبر ومن مستلزمات النصر، فأثبتُ الفريقين أغلبُهما، وأعظم ما تشتد الحاجة إليه عندما يضطرب الأمر، ويدبّ الذعر، وتنتشر الشائعات، وتشيع الهزيمة في نفوس المقاتلين، وقد جاء الأمر به عند اللقاء مع العدو، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ [الأنفال: 45">. وهذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء([49">) أي: إذا حاربتم جماعة من الكفرة فاثبتوا للقائهم في مواطن الحرب([50">)، ولا تجْبُنوا عنهم، وهذا لا ينافي الرخصة في قوله: ﴿ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ ﴾ [الأنفال: 16">، فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة، والرخصة هي في حال الضرورة، وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرف والتحيّز.
ثم أمر بالذكر؛ فإن ذكر الله يعين على الثبات في الشدائد، وقيل المعنى: اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان([51">).
وقد جاء في دعاء طالوت وأصحابة، لما برزوا لجالوت وجنوده، طلبُ الثبات: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250">. فكانت العاقبة لهم: ﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 251">.
ومن دعاء المجاهدين - أصحاب الأنبياء- بالثبات: ﴿ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147">، فكانت الغلبة لهم: ﴿ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 147">.
كما وعد الله من ينصر دينه بأن ينصره ويثبته، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7">. أي: يقوِّكم عليهم ويجرِّئكم حتى لا تولوا عنهم وإن كثر عددهم وقل عددكم([52">). وتثبيت الأقدام عند القتال، أو على الإسلام أو على الصراط. أو المراد: تثبيت القلوب بالأمن؛ فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب، وهذا كقوله تعالى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [الأنفال: 12">، فأثبت هناك واسطة ونفاها هنا، كقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ﴾ [السجدة: 11">، ثم نفاها بقوله: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ [الروم: 40"> ([53">).
وكما يكون الثبات حسياً يكون معنوياً، فيثبت المقاتل أمام شائعات العدو وأراجيفهم بما آتاه الله من قوة إيمان وسلامة عقيدة.
ومما يعين على الثبات ذكر الله والدعاء .
7-8- الاتصال بالله بالذكر والدعاء:
جاء الأمر بذكر الله كثيراً عند ملاقاة الأعداء في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ [الأنفال: 45">، فأمر بالثبات وأمر بما يعين عليه وهو الذكر، فإن ذكر الله يعين على الثبات في الشدائد، ويمنح الطمأنينة والسكينة حيث يشعر المقاتل بأنه لا يقاتل وحده، بل الله معه، فيثبت القلب على اليقين ويثبت اللسان على الذكر، وهذه الحالة لا تكون إلا عن قوة المعرفة، واتقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة في الناس([54">).
قال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونون؛ عند الضراب بالسيوف ([55">).
وعن كعب الأحبار قال: ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ [الأنفال: 45">([56">).
وقال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا، يقول الله عز وجل: ﴿ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً ﴾ [آل عمران: 41">، ولرخص للرجل يكون في الحرب، يقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ [الأنفال: 45"> ([57">).
وفي هذا تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله تعالى، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد، ويقبل إليه بكليته، فارغ البال، واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال ([58">).
وهذا كله على تفسير الذكر بالذكر المطلق، وفيه قول آخر وهو تفسيره بالدعاء، قال ابن الجوزي: ﴿ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً ﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنه الدعاء والنصر، والثاني: ذكر الله على الإطلاق ([59">).
وعلى تفسير الذكر بالدعاء جاء تفسيره عند الطبري وغيره، ﴿ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً ﴾ يقول : وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره([60">).
وقد جعل الله الدعاء والاستغاثة به سبباً للثبات والنصر على الأعداء؛ فقد جاء في دعاء طالوت وأصحابة، لما برزوا لجالوت وجنوده: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250">. فكان عنده النصر والظفر: ﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 251">.
ومن دعاء المجاهدين أيضاً: ﴿ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 147">، فكانت العاقبة لهم: ﴿ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 147">.
كما جعله سبباً للمدد والغوث من الله: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9">.
وقد قضى النبي r ليلة غزوة بدر بالدعاء والاستنصار بالله والاستغاثة به، وهو في قبّته: (( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم ))، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله، ألحَحْت على ربك، وهو يَثِب في الدرع، فخرج وهو يقول:﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 45"> ([61">).
وكان رسول الله rإذا غزا قال: (( اللهم أنت عضُدي ونصيري، بك أَحول، وبك أَصول، وبك أُقاتل )) ([62">).
وكان إذا خاف قوماً قال: (( اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم )) ([63">).
كما أن التحام الصفوف سبب من أسباب استجابة الدعاء، قال r: (( ثنتان لا تردّان أو قلّما تردّان : الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً )) ([64">).
إن ذكر الله ودعاءه عند لقاء العدو، يؤدي وظائف شتى: إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب، والثقة بالله الذي ينصر أولياءه، ويهلك أعداءه، وهو في الوقت ذاته استحضار لحقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لله، لتكون كلمة الله هي العليا، لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي. كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف ([65">).
9- التوكل على الله وحده:
التوكل على الله يمنح المؤمن قوة لا تعادلها قوة، لذلك يكون النصر حليف المتوكلين، قال تعالى: ﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160">.
والتوكل هو: قطع النظر عن الأسباب بعد تهيئة الأسباب([66">). كما قال r: (( اعقلها وتوكل )) ([67">)؛ فهو اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور مع إتيان الأسباب المشروعة؛ إذ سنة الله جارية بترتيب النتائج على الأسباب، ولكن الأسباب ليست هي التي تنشئ النتائج.
أما ترك الأسباب فهو تواكل، وليس من التوكل في شيء، وهو مخالف للهدي النبوي، فقد ثبت أن النبي r ظاهَر في أُحد بين درعين، ودخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر([68">)، وأقعد الرماة على فم الشعب في أُحد ، وخندقَ حول المدينة يوم الأحزاب، وأخذ بكافة الأسباب الممكنة وهوسيد المتوكلين r.
وقد أخبرنا الله عن المقاتلين في أعقاب غزوة أُحد عندما ﴿ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173">. أي: محسبنا الله وكافياً، ونعم الموكول إليه الله([69">)؛ فكانت النتيجة: ﴿ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174">.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد r حين قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ([70">).
10- نصرة دين الله تعالى:
نصر الله يتحقق بنصرة شريعته؛ باتباع أوامره واجتناب نواهيه؛ بالعمل بدينه، وتحكيمه في الحياة، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، ونصرة نبيه r، وأوليائه ([71">)، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7">.
ينصركم بنصركم عليهم، ويظفركم بهم؛ فإنه ناصر دينه وأولياءه([72">). ويثبت أقدامكم في القيام بحقوق الإسلام، والمجاهدة مع الكفار([73">).
ويدل على هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40">. أي: وليعينن الله من يقاتل في سبيله لتكون كلمته العليا على عدوه؛ فنصر الله عبده: معونته إياه ونصر العبد ربه: جهاده في سبيله لتكون كلمته العليا. إن الله لقوي على نصر من جاهد في سبيله من أهل ولايته وطاعته، عزيز في ملكه، منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب([74">)، ومن كان القوي العزيز ناصره فمن يقهره؟
ولقد أنجز الله - عز سلطانه – وعده، حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم([75">).
وهذا النصر لمن ينصر الله في سائر الأزمان؛ لذلك بيّن صفة ناصريه بقوله: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41 ">، وهي أوصافٌ يَتَحَلَّى بها المؤمنُ بعدَ أن يمكّن الله له في الأرضِ، فيَزيدُه النصرُ والتمكينُ قوةً في دين الله وتَمسُّكاً بشرعته ومنهاجه وآدابه.
11- طاعة الله وطاعة رسوله r :
أمر الله تعالى المؤمنين بطاعته فيما يأمرهم به، وطاعة رسوله r فيما يرشدهم إليه، وحذر من مخالفة رسوله r فقال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20"> أي لا تتولوا عن الرسول r، فإن المراد هو الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه، وذكَر طاعته تعالى للتمهيد والتنبيه على أن طاعته تعالى في طاعة رسوله r : ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ﴾ [النساء: 80"> وقوله تعالى: ﴿ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ جملة حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقاً، لا لتقييد النهي عنه بحال السماع، أي: لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته، سماع فهم وإذعان([76">)؛ لأن التولي عنه ومخالفته معصية تحبط العمل: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33">. قال الطبري: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في أمرهما ونهيهما، ولا تبطلوا بمعصيتكم إياهما وكفركم بربكم ثواب أعمالكم، فإن الكفر بالله يحبط السالف من العمل الصالح([77">).
كما جعله الله من عوامل النصر التي ذكرها في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ $ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45-46">،؛ لأن الطاعة توحّد الصف، وتمحو الخلاف ، وتُكسب القوة في مواجهة العدو.
وكما أمرنا الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله rأمرنا بطاعة أولي الأمر من المؤمنين، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 59">. وأولو الأمر هم: العلماء والأمراء؛ فتجب طاعتهم فيما وافق الحق([78">)، فالطاعة تكون لله ولرسوله r، وتكون للقيادة المؤمنة، « إنها طاعة القيادة العليا فيها، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها، وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً » ([79">). وقد جاءت الوصية بالطاعة والتحذير من المعصية في كثير من وصايا الخلفاء لأمراء الجيوش([80">).
يقول الحافظ ابن كثير: وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم ببركة الرسول rوطاعته فيما أمرهم فتحوا