السلطان العثماني عبد الحميد
ودوره في مقاومة الاستيطان الصهيوني في فلسطين.
(1)
1 ـ مقدمة:
ـ " ... انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع , إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض , فهي ليست ملك يميني بل ملك للأمة الإسلامية : التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها فليحتفظ اليهود بأموالهم وملايينهم , وإذا مزقت يوماً دولة الخلافة فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن ؟ أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية , وهذا أمر لا يكون ، إنني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة " ـ . *1
ـ السلطان عبد الحميد الثاني ـ عام 1901م
إن العبارات السابقة وجهها السلطان عبد الحميد الثاني إلى رئيس كتّابه في الباب العالي تحسين باشا وذلك في معرض شرحه السبب في عدم استقباله الوفد اليهودي الذي جاء لمقابلته وعرض مساعدات مادية ومعنوية كبيرة على السلطنة العثمانية في حال قبولها بيع أراضٍ في فلسطين لليهود . *2
فمن هو السلطان عبد الحميد الذي رفض العرض الأخير لليهود وقد سبقته عروض وعروض أخرى تعود على الأقل إلى العام 1840 ؟
إن شخصية السلطان عبد الحميد الثاني هي شخصية يحلو للباحث أن يتوقف عندها طويلاً ، لكونها تتمتع بكل المواصفات التاريخية ، فلقد أمضى طفولة عجيبة ، ثم تسلم مقادير السلطنة في دولة مترامية الأطراف ، لكأنها أشبه بمركب كبير تتقاذفه الأمواج وسط بحر السياسة الدولية ، المضطربة آنذاك ، وحينما تربع على عرشه في قصر" يلدز" لم ينزل عنه حتى أمضى ثلاثة وثلاثين عاما ، ملأى بالإحداث والمؤامرات وزاخرة بقصص الحروب والثورات والحركات . ثم سقط عبد الحميد عن عرشه بعد طول صمود، ليمضي البقية الباقية من حياته وهو يكتب مذكراته ويرد على خصومه ونقاده.
وقبل أن يوارى السلطان عبد الحميد في الثرى , كانت الأقلام مشرعة لتكتب عنه فإما متعاطفةً معه حتى الاستشهاد أو متصدية له حتى الموت ـ *3 .
ولا حل وسط بينها.
ولست بمعرض الحديث عن عهد عبد الحميد في الناحية الداخلية منه ، لذلك فإن مناقشتي "للعهد الحميدي" سوف تقتصر فقط على موقف السلطان عبد الحميد من محاولات الاستيطان اليهودي في فلسطين ؟ وما سبق هذا الموقف من تغلغل ـ لليهود ـ في جسم الدولة العثمانية وأسباب هذا التغلغل وظروفه ، وقصة نجاح اليهود مع بعض السلاطين [من أسلاف عبد الحميد] , وحكاية فشلهم مع القسم الأكبر من السلاطين العثمانيين، وخصوصاً قصة فشلهم مع السلطان عبد الحميد نفسه ؟
وأيضاً ماتلا موقف السلطان عبد الحميد / ضد الاستيطان الصهيوني / من ردود فعل للصهيونية ومعها أذرعها ـ على منع عبد الحميد على اليهود البقاء بفلسطين ورفضه بيعهم الأراضي فيها , وممانعته المطلقة لاستيطانهم بفلسطين .
وبالطبع فإن هذا يستلزم منا التساؤل ثم الإجابة وباختصار شديد ـ حول كل طرف من أطراف هذه القضية ـ وهم :
ـ العثمانيون: أسلاف عبد الحميد وأسباب نجاحهم في إقامة دولة استمرت حوالي سبعة قرون ؟
وماهية عداء أوروبا لهم ؟
مما أدى في نهاية المطاف إلى تفكيك سلطنتهم ودوال دولتهم ؟
وقصة العثمانيين مع اليهود : بأنواعهم ومذاهبهم وبالأخص وبتوسع , كيف ولماذا قام هؤلاء اليهود بتدمير حكم عبد الحميد وخلعه من السلطنة في العام 1909م ؟
ومن ثم ـ قيام اليهود بإبراز جمعية سرية تعتبر من أخطر الجمعيات في نهاية عهد الدولة العثمانية وهي ـ " جمعية الإتحاد والترقي ": ودور هذه المنظمة و أعضاؤها في خلع السلطان ، ومن ثم موافقة هذه المنظمة بصفتها الهيئة الحاكمة الفعلية في السلطنة العثمانية على بيع الأراضي في فلسطين لليهود.
2 ـ من هم العثمانيون ؟
ومن هو السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ؟
العثمانيون : هم قبيلة تركمانية محاربة تسمى [ القبيلة الذهبية ] تنتمي إلى التجمع الحربي القبلي التركماني [النشابات الثلاثة] وقد انتقلت هذه القبيلة الذهبية مع الغزوات المغولية المتتالية ـ منذ أيام هولاكو, وصولاً إلى الغزو الكبير الذي قام به تيمورلنك في عام 1401م ـ هاربة من أمام وجه المغول من بلادها الأصلية الموجودة في تركستان الصين حالياً، وحتى توصلت في القرن الرابع عشر 1326 إلى إنشاء سلطنة صغيرة لها في أراضي آسيا الصغرى / تركيا حالياً. *4
ومن ثم استغل [ العثمانيون ] ـ وهذا ما صار عليه اسمهم منذ بداية القرن الرابع عشر تقريبا ـ ضعف [ الدولة البيزنطية ] التي كانت ماتزال تحكم مدينة القسطنطينية وقسماً من الأناضول في ذلك الزمان ، حتى تمكنوا أخيراً في العام 1453 وبقيادة سلطانهم محمد "الفاتح" من انتزاع القسطنطينية من أيدي "البيزنطيين" , وأنهوا بذلك عهد الإمبراطورية البيزنطية الطويل الذي استمر إحدى عشر قرناً .*5
وإن سيطرة العثمانيين على القسطنطينية وبعض المناطق الواقعة غربي تلك المدينة في قارة أوروبا [التي تعرف اليوم بادرنه ] منذ العام 1453 م قد تسببت في جعل أوروبا المسيحية تخشى وتخطط وتحسب عشرات الحسابات الإستراتيجية ضد العثمانيين , وقد بلغت خشية أوروبا وخوفها من الأتراك العثمانيين ذروتها خصوصاً حين ظهر السلطان سليمان "القانوني" على أبواب فيينا " النمسا" في عامي 1529 و1539 م , وكان ذلك بعد احتلاله لأوروبا الشرقية بأكملها تقريباً ومعها هنغاريا " المجر" وقسماً كبيراً من مملكة النمسا. *6
وتلا عهد السلطان سليمان العديد من السلاطين الذين انتصروا على الأوربيين في الحروب , وحتى ـ مثلاً ـ في زمن انحدار العثمانيين أي خلال القرن التاسع عشر تمكن العثمانيون من الانتصار في حرب القرم 1854 ـ 1856م وذلك على دولة روسيا القيصرية بالذات . *7
ـ حسب الدراسات التاريخية وخصوصاً الجامعية الأكاديمية الأحدث والتي تتمحور حول إعادة قراءة التاريخ العثماني بالاستناد إلى وثائق الأرشيف العثماني , وخصوصا تلك الموجودة منها في عاصمة السلطنة استانبول, لم يشكل عهد السلطنة العثمانية {خلال فترة وجودها الطويلة وقد قاربت على القرون الستة 1326ـ 1918 م , والتي لم يزد عليها في الزمان من الإمبراطوريات التي حكمت المشرق سوى الإمبراطورية البيزنطية ـ التي زادت عليها بخمسة قرون ـ } العبء الأعظم فهذه الدراسات التاريخية الحديثة، وهي على العكس من الدراسات القديمة التي كتبت في السابق حول العثمانيين والتي كان أغلبها ذا طابع أيديولوجي غير علمي حيناً أو طابع غربي إستشراقي محض أحياناً أخرى ، ولاسيما حينما حاول بعض من المستشرقين وأيضاً جماعة من الباحثين التقليديين أن يصوروا العثمانيين بمظهر الهمجيين المتوحشين ، مسقطين عليهم صورة المغول الذين سبق لهم أن أنقضوا على عاصمة الخلافة بغداد وصبغوا مياه الدجلة بالدم , ويقال أيضاً أنهم صبغوها بالحبر.
والحبر: هو دم المخطوطات والكتب العربية والشرقية تلك الكتب والمخطوطات التي كانت تملأ مكتبات بغداد . *8
إن الصورة الحقيقية للمرحلة العثمانية هي بخلاف ذلك ، وما يصح قوله عن العثمانيين في بعضٍ من سنواتٍ من مرحلةٍ تاريخيةٍ معينةٍ , وهذه المرحلة هي
[الفترة الأخيرة للعثمانيين [ 1800ـ 1918م ] ، لا ينطبق ولا يمكن له أن ينطبق على الفترة العثمانية بأكملها [ 1326 _ 1918م ].
ويوجد الكثير من الأدلة العلمية والتاريخية على صحة ما أوردته أعلاه ـ وقد كنت من الباحثين السباقين في التاريخ العثماني ـ في إيضاح وجهة النظر هذه أي من مدرسة : إعادة النظر في البحث وكتابة تاريخ العثمانيين ، وذلك من خلال الوثائق والشواهد وكان ذلك في أطروحتي الجامعية [مقاطعة صافيتا ـ التاريخ الاجتماعي والاقتصادي 1790ـ 1832] التي ناقشتها في الجامعة اللبنانية عام 1997 , ونلت عنها درجة الماجستير في التاريخ , ثم في كتابي المنشور بنفس العنوان عام 2002 م , وفيه توسعت ـ وبالوثائق ـ بصورة أكثر بكثير من الأطروحة الجامعية . *9
وفي هذه البحث سوف أركز على عهد السلطان عبد الحميد الثاني , وعلى موقفه من المشروع الصهيوني وردود الفعل الصهيونية على هذا الموقف.
من هو السلطان عبد الحميد الثاني ؟
ولد عبد الحميد الثاني يوم الأربعاء 21/أيلول عام 1842م وهو ابن السلطان عبد المجيد من زوجته الثانية [وهي أرمنية الأصل] *10 .
وحينما توفي والده عبد المجيد في عام 1861 خلفه عمه السلطان عبد العزيز , الذي اغتالته " جمعية تركيا الفتاة " عام 1876 م ، ومن ثم خلفه السلطان "مراد الخامس" أخو عبد الحميد الذي حكم 93 يوما ً فقط وتم خلعه بسبب ظهور أعراض الاضطراب النفسي عليه ، مما أدى إلى تولي أخوه السلطان عبد " الحميد الثاني " مقاليد الحكم مكانه في 31/ آب / 1876 وكان في الرابعة والثلاثين من العمر . *11
كانت فترة حكم السلطان عبد الحميد من أصعب الفترات في القرون السبعة التي حكم بها العثمانيون على الإطلاق.
وباختصار شديد للظروف الدولية :
إن القوى الأوربية منذ العام 1800م وعلى رأسها أوروبا "المسيحية" وخصوصاً بريطانيا ـ ولم تكن خليفتها الولايات المتحدة قد برزت على الساحة الدولية بعد ـ كان يهمها من السلطنة العثمانية أكثر مايهمها , أمر وحيد جغرافيا وهو أمر إستراتيجي فريد وغير موجود إلا عند العثمانيين في تلك الفترة ألا وهو أن السلطنة العثمانية كانت تشكل جغرافياً مايسمى [ دولة حاجزة ] بين روسيا بحكامها القياصرة الأرثوذكس الذين كان سيفهم مسلطاً على " طريق الهند " , والهند هي المستعمرة والدجاجة التي تبيض ذهباً بالنسبة إلى بريطانيا في تلك الأيام , "مثلها مثل النفط في هذه الأيام" ـ من جهة ـ , وبين طريق الهند من جهة ثانية . *12
ولذلك كانت بريطانيا ورغم كرهها الشديد " لرجل أوروبا المريض " وهو التعبير الشائع والمستعمل عندهم للكناية عن "العثمانيين" , كانت مضطرة ومرغمة على حقن ذلك الرجل المريض بالأدوية ومداواته بالمراهم بل وأحياناً دهنه بالطيب حتى ـ وكل ذلك وفقط ـ من أجل إبقائه حيا وواقفا على رجليه في وجه روسيا القيصرية ؟
أما فرنسا والدول اللاتينية الأخرى التي تدور في فلكها " خصوصاً إيطاليا " , والتي كان موقفها من الدولة العثمانية قد بدأ يسوء منذ أيام حملة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا على بلاد الشام في العام 1832م وبلغت العلاقات الفرنسية العثمانية ذروة توترها مع فشل تلك الحملة 1841م. *13
يبقى لدينا ألمانيا التي كانت في عهد قيصرها وليام الثاني معاصر السلطان عبد الحميد , والذي كان يدعم العثمانيين نكاية بفرنسا ومنافسةً لبريطانيا ولذلك كافأه عبد الحميد بإعطائه ألمانيا امتيازات أكبر من باقي الدول الأوروبية وكذلك بمنحها إمتياز تعهد سكة حديد بغداد . *14
ـ أهم وأبرز مراحل العهد الحميدي :
أ ـ المشروطية الأولى : كان الصدر الأعظم , رئيس الوزراء العثماني هو مدحت باشا الشهير , قد أعلن ـ المشروطية الأولى ـ في أيلول عام 1876 م بعد تسلم السلطان عبد الحميد الحكم مباشرة , وتعني المشروطية الأولى , القانون الأساسي للدولة العثمانية أي ـ الدستور العثماني ـ وقد تضمن إنشاء الدستور الحصانة النيابية والتشريع والميزانية والمحكمة العليا ونظام اللامركزية الإدارية .
لم يتم تنفيذ المشروطية الأولى فعلياً بل كانت وليداً "مات قبل ولادته" كما يقال ، فقد أقيل أبو المشروطية مدحت باشا من منصبه في 5 شباط 1877م أي بعد خمسة أشهر من إعلان المشروطية وقد لعبت الأصابع "اليهودية والماسونية" دورها الخطير في التفريق بين الرجلين الكبيرين , أي بين السلطان عبد الحميد وبين مدحت باشا .
ب ـ المشروطية الثانية : قامت ثورة "جمعية الاتحاد والترقي" على عبد الحميد عام 1908 م واتهمته بقتل مدحت باشا ، وسيطرت هذه الجمعية على مقاليد الحكم بالتدريج فأعلنت قيام المشروطية الثانية _الدستور الثاني _ في 24/ حزيران 1908 وكانت المشروطية الأولى مجمدة منذ العام 1877م .
ولم يكن الدستور الثاني إلا تحقيقاً لمآرب الدول الغربية في السلطنة العثمانية وتمهيداً لإنهاء عهد السلطنة حيث تم خلع السلطان عبد الحميد في 24 نيسان عام 1909 وكان خلع عبد الحميد فعلياً هو بداية النهاية للسلطنة العثمانية.
وتم تنصيب محمد رشاد الخامس سلطاناً مكان عبد الحميد ، وقد غدا السلطان محمد رشاد هذا ألعوبة في يد جمعية الاتحاد والترقي ومن ورائها القوى الغربية ولاسيما المحفل الماسوني الايطالي . وبقي رشاد سلطاناً "صورياً "حتى العام 1918 م ، وتلاه السلطان محمد وحيد الدين السادس [ 1918 ـ 1922م ] ، ثم جيء بآخر سلطان عثماني وهو عبد المجيد الثاني الذي قام بخلعه مصطفى كمال وإعلان الجمهورية التركية في عام 1924 .
ملاحظة : تلقب السلاطين العثمانيين منذ بداية عهد عبد الحميد 1876 حتى خلع السلطان محمد وحيد الدين السادس وإعلان الجمهورية التركية عام 1924م بلقب "الخليفة" , وكانوا قد تلقبوا سابقا بلقب "حامي الحرمين الشريفين" .
_ المحاولات الغربية / الصهيونية للاستيطان في فلسطين منذ 1840م , وخصوصاً في عهد عبد الحميد , وردة فعل عبد الحميد عليها:
لم تكن محاولة اليهود " الكبرى" للاستيطان في فلسطين في العام 1901 هي الأولى من نوعها فقد سبقتها محاولات كثيرة أهمها :
1ـ عام 1840 : وجه اللورد بالمر ستون وكان وزير خارجية بريطانيا رسالة إلى سفيره في إستانبول يطالبه فيها ببحث مسألة توطين اليهود في فلسطين مع السلطان العثماني وهو يحرضه على إغراء العثمانيين بالأموال الكثيرة التي سيجلبها هؤلاء اليهود .
وبعد مرور عام أي في العام 1841 أرسل بالمر ستون رسالة أخرى إلى سفيره في الأستانة طالبه فيها بإقناع السلطان بإباحة هجرة اليهود وقال:
" سيكون مفيداً جداً للسلطان إذا ما أغرى اليهود المبعثرين في أوروبا وأفريقيا بالذهاب والتوطن في فلسطين..." .
2 ـ في عام 1882 م [وكان عبد الحميد قد صار سلطاناً ] أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قراراً بتحديد هجرة يهود أوروبا إلى أمريكا الشمالية وحاولت بالمقابل "دفش" هؤلاء اليهود باتجاه الهجرة إلى السلطنة العثمانية وخاصة إلى فلسطين .
ولكن السفير الأمريكي في إستانبول أخفق في إقناع وزير خارجية عبد الحميد في عرض الفكرة عليه .
3 ـ محاولة أخرى قامت بها بريطانيا في عام 1887م لدى السلطان عبد الحميد بالذات , بذلت فيها بريطانيا كل جهودها وإغراءاتها المالية ووعودها العلنية والسرية بالوقوف إلى جانب الدولة العثمانية , و لكن عبد الحميد ثبت على رفضه القاطع .
4 ـ عام 1896م حاول ثيودور هرتزل عن طريق صلاته مع دوق بادن الأكبر الحصول على إذن لمقابلة القيصر الألماني غليوم وهو صديق عبد الحميد وشرح فوائد المشروع الصهيوني للقيصر علّه يساعد اليهود في إقناع السلطان ولكن القيصر الألماني تهرب لعلمه بموقف عبد الحميد الرافض.
كما حاول "هرتزل" محاولة أخرى مع القيصر وكانت عند زيارة القيصر غليوم الثاني للسلطنة عام 1901 وذلك لغرض تمرير المشروع مع عبد الحميد , عن طريق الإغراء بالمال والإغراءات السياسية الأخرى , ولكن طلب هرتزل قوبل بالرفض القاطع.
وكان هرتزل قد رسم سابقاً سياسات الاستيطان اليهودي المبرمج فقال في "يومياته" عام 1895عن بعض هذه السياسات ـ ما يلي :
[ يتوجب علينا أن ننتزع الملكية الخاصة لأراضي فلسطين من أيدي ملاكها ، وينبغي أن يكون ذلك في لطف وفي منتهى السرية والتكتم والحذر الشديد ، وعلينا أن نقوم بتهجير السكان المعدمين ـ الفلسطينيين ـ عبر الحدود ، بعد أن نسد أمامهم كل مجال للعمل في بلادنا ـ فلسطين ـ بينما نحاول تأمين استخدامهم وتشغيلهم في بلدان العبور ] .
عندما سئل هرتزل عن الحدود الشمالية المقترحة للدولة اليهودية في مؤتمر بال عام 1897م وما إذا كانت " ستقف في حدودها عند مدينة بيروت أم ستتعداها شمالاً " ؟
قال: " عندما نصل إلى بيروت سوف يكون من المهم أن نسأل أنفسنا هذا السؤال، إن حدود دولتنا سوف تتوقف على عدد المهاجرين إليها, كلما كان هناك مهاجرون أكثر كلما احتجنا إلى مساحات أكبر ومن الأرض أوسع ".
بعد رفض عبد الحميد للاتصالات "غير المباشرة" , أتبعت الحركة الصهيونية المبدأ المباشر القائل " ماحك جلدك مثل ظفرك " ولذلك قرر زعمائها طلب المقابلة وجهاً لوجه مع السلطان عبد الحميد شخصياً لعرض المشروع عليه وكانت هذه هي :
5 ـ المحاولة الكبرى التي بذلها الصهاينة لدى عبد الحميد وقد جرت في عام 1901م , {نقلا عن [شهادة شاهد عيان] , هو الشيخ علي شيخ العرب منقولة بحرفيتها عن كتاب الدكتور موفق بني المرجة , "صحوة الرجل المريض" } , وكانت هذه الشهادة على الشكل التالي :
قام عدد من كبار زعماء اليهود وخصوصا الدونمه من الصهاينة وهم :
1ـ المحامي "عمانوئيل مزراحي قره صو/ الماء الأسود / black water" : وهو يهودي من سالونيك ورئيس "محفل مقدونيا ريزورتا الماسوني" ومقر ذلك المحفل . وكان يجتمع فيه أيضاً أعضاء جمعية " تركيا الفتاة / الإتحاد والترقي" , في مدينة سالونيك .
2ـ جاك قمحي : وهو رجل بنوك تركي وهام جداً ويعرف بلقب " روتشيلد إستانبول " .
3 ـ ثيودور هرتزل : أمين عام المؤتمر الصهيوني الأول .
4 ـ ليون كوهين : وهو شقيق موسيه كوهين من كبار رجالات الدونمه [ وقد غير "موسيه" اسمه على عادة الدونمه من "موسيه كوهين " إلى "مونيس تكين آلب" : وهو اسم تركي ] . راجع هادي علي حسن , (13) ص 169.
وذهب هؤلاء إلى قصر يلدز , وهو مقر حكومة عبد الحميد في إستانبول طالبين مقابلة السلطان العثماني فأستقبلهم تحسين باشا رئيس الكتاب , وأصر تحسين باشا على معرفة مايريدونه لينقله للسلطان حرفياً فأبدوا استعدادهم لـ :
ـ الوفاء بجميع الديون المستحقة على الدولة العثمانية .
ـ بناء أسطول لحماية الدولة .
ـ تقديم قروض بخمسة وثلاثين مليون ليرة ذهبية, دون فائدة, لإنعاش مالية الدولة وإنماء مواردها.
وكل ذلك مبدئياً هو مقابل :
ـ إباحة دخول اليهود إلى فلسطين في أي يوم من السنة للزيارة .
ـ السماح لليهود بإنشاء مستوطنات وخصوصا قرب القدس ينزل فيها أبنائهم بحجة الزيارة !
وحينما نقل تحسين باشا ما سمعه إلى السلطان عبد الحميد , أجابه قائلا : قل لهؤلاء اليهود الوقحين [ أنصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع ، إنني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من هذه الأرض فهي ليست ملكي بل ملك للأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها فليحتفظ اليهود بأموالهم وملايينهم , وإذا ما مزقت يوماً دولة الخلافة فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن ؟
أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية ، وهذا أمر لا يكون ، أنني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة ] .
وقد أرسل عبد الحميد بعد ذلك إلى ممدوح باشا ناظر الداخلية مكلفا إياه بالاتصال برءوف باشا وهو متصرف القدس لكي يقوم فوراً بالتحري عن اليهود في فلسطين ولاسيما في القدس وحولها بحيث لا يبقى منهم إلا الزائرين للحج ولفترة محدودة.