محمود درويش
حكايةُ فلسطين التي لا تموت
في ليلٍ تعصفُ به الأنواء،ويستعمرُهُ الرعبُ من أربع جهات الأرض،يستبدُ به الحزنُ،ويهيمنُ عليه الخوفُ من غوائل المجهول،و على شاطئ بحرٍ من أنين حوّلته أحلامُ اللصوص إلى حكاياتٍ من الاقتلاع و التهجير و التشرد،و كوابيسَ من القتل و التدمير و الإبادة ،نقشت على جدار عقولنا لوحاتٍ من الهواجس المتخمة بالمرارات و نفي الآخر،وتركت على شغاف القلب المحروق لعاشقة أنشب فيها الحبُّ مخالبَهَُ ندوباً مثخنة َ الجراح،تطفحُ لوعةً ممزوجة ً بألم الوعود المبعثرة..!! و مع موج الآهات القادم من بحار عذابات الأيام جاءها المخاض إلى جذع الذاكرة،هزّتْ أغصان الزمن بيمناها و أحلام البقاء بيسراها،فولدت صبياً كنعانيَ القسمات،عربيَ الوجه واليد و اللسان،أرضعتهُ من أوجاعها طموحاتِ امرئ القيس،و من حقول ليمونها المتمردة أشعار المتنبي، و من كروم زيتونها الغاضبة فلسفة أبي العلاء المعري، و من روائع تراثها و فصاحة بيانها أشعار أبي تمّام،ومن تمرد الحلم على ضفاف نهر القلق "شعلةَ المقاومة"،مزودةً ببطاقة هوية ممهورةً بخاتم شمس الحرية إلى جانب تلك البصمة العبقرية(سجّل أنا عربي)....
و بين النبض و بين الصمت كبر القلبُ الصغير المضرّجُ بالهموم، ليهاجر إلى لبنان في ليل النكبة الحالك،حيث الشقيقُ المدّثر بعباءات الحب الملفعة بشذا القهوة ورائحة الخبز و أطاريف الربيع...لكنّ تكبيرات المآذن و أجراس الكنائس في الجليل ،أطلقت لنفسها العنان على كتفيّ الفجر، تنادي الأحلام العذراء لعشاق الأرض في وطن الروح،فامتطى اللاجئُ اليافع جناح الدقائق المتوترة إلى جنّة الأقمار و غصون الزيتون،يسبقهُ ذلك الشوقُ العارم إلى ((فلسطينيّة َ العينين والوشم،فلسطينيّة الاسم،فلسطينيّة المنديل و القدمين و الجسم،فلسطينيّة الكلمات و الصمت،فلسطينيّة الصوت،فلسطينيّة الميلاد و الموت)) -عاشق من فلسطين-
وهكذا توهّج الوعدُ في عيون الأمداء الفلسطينيّة،و عانقت أهزوجةُ المطر رائحة الزعترِ البريّ رافعةً يديها بدعواتٍ ما لبثت أن حلّقت في السماء تباركُ فرحَ الحياة بولادة شاعرٍ أضاف(أوراق الزيتون 1964)إلى مكتبة الشعر المقاوم، و فيها يقول
![محمــــود درويـــــــش Frown](https://2img.net/h/www.juban1.com/images/smilies/frown.gif)
و بعد شتاءاتٍ من الحكايا المشتعلة بالمواجع ،يبعثها المطرُ و تبعثرها أوراقُ الهزيمة،راح العدو الغاصبُ لفلسطين،يفتشُ نسماتِ الفجر،لعلّه يصادر أفراح القصيدة الخارجة من أكوام الأحزان و تلال الفواجع،لكن القصيدة المعتّقة في دنان الروح و الممسكة بدهشة المطر،عبرت الحدود إلى مدائن الأحلام في مصر،و رغم استعدادها للعبور العظيم و إزالة آثار العدوان فقد استقبلت مصر بأريحية المشاعر القومية العربية القصيدة الفلسطينيّة القادمة على أجنحة أضواء الفجر و باقات الشمس ووضعتها نجوماً في خرائط انتصارها..
وتابع الشاعر الطريق مع موهبة العذاب و حقول السنابل و أحلام الشعر إلى ميادين الكفاح و ساحات النضال بانضمامه إلى منظمة التحرير الفلسطينيّة،يريد الإمساك بأزهار البراري و بيادر الضوء و بندقية الثورة في آفاق الأيام التي كرسته شاعراً للمقاومة الشعبية و الرسمية،و هو يشرف على المكاتب الثقافية لمنظمة التحرير في بيروت ...و هنا بدأت مرحلة جديدة في حياة الشاعر الذي لم يكن سياسياً بل كان يمارس السياسة من خلال الشعر الذي جعل منه صوتَ فلسطين،صوتٌ من أعماق الأوجاع الإنسانية،صوتُ الغربة الذي أجبره على التشرّد في بلاد الدنيا ...لقد امتزج في شعره الحبُّ بالوطن و الطبيعةُ بالحبيبة والأم،فكانت هذه أفلاكه التي يدور فيها، يفتح نوافذ الشعر على شرفات الأمل، يرسم زقزقة العصافير و في داخله أسراب من الطيور تحلق في فضاء وطنه،تحوم حول فراديس الشعر وممالك الأحلام ،تحملها عاطفة نبيلة و قلم يوزع العطر و المطر و الغضب على أوراق مبعثرة داخل أسوار الوطن و خارجه...و برغم الأضواء التي أحاطته بها وسائل الأعلام كان بمهارة الشاعر في أعماقه يسلطُ هذه الأضواء على قضية شعبه مع الغرباء القادمين من أرجاء الدنيا ليستوطنوا فلسطين و يطردوا شعبها فيقول في قصيدته(أيها المارون بين الكلمات العابرة):
((آن أن تنصرفوا،و تقيموا أينما شئتم و لكن لا تقيموا بيننا، آن أن تنصرفوا، و لتموتوا أينما شئتم و لكن لا تموتوا بيننا،فاخرجوا من أرضنا،من برنا..من بحرنا،من قمحنا...من ملحنا،من جرحنا ، من كل شيء و اخرجوا من ذكريات الذاكرة...)) و لأن الشعر ابن الفروسية، فقد كان لدمشق العصية على الاستسلام مكانة عالية في قلبه حيث يقول في قصيدته (طريق دمشق)
![محمــــود درويـــــــش Frown](https://2img.net/h/www.juban1.com/images/smilies/frown.gif)
![محمــــود درويـــــــش Frown](https://2img.net/h/www.juban1.com/images/smilies/frown.gif)
![محمــــود درويـــــــش Frown](https://2img.net/h/www.juban1.com/images/smilies/frown.gif)
![محمــــود درويـــــــش Frown](https://2img.net/h/www.juban1.com/images/smilies/frown.gif)
![محمــــود درويـــــــش Frown](https://2img.net/h/www.juban1.com/images/smilies/frown.gif)
و سلامٌ عليك أيها الفلسطيني العريق،يوم ولدت في فلسطين، ويوم حضنك تراب فلسطين،ويوم تبعث حياً من أرض أمك فلسطين....
منقول
دمشق في 24/10/2008 بقلم:محمد على الحايك
(أبو تمّام)
![محمــــود درويـــــــش 15740](https://2img.net/h/www.modawanati.com/uploads/s/saleem55/15740.jpg)