كيف تنهض الأمم ؟ الأستبداد والتربية (1)

عبد الرحمن الكواكبي

خلق الله في الأنسان استعدادا للصلاح واستعدادا للفساد ، فأبواه يصلحانه وابواه يفسدانه. أي أن التربية تربوا باستعداده جسما ونفسا وعقلا ان خيرا فخير وان شرا فشر . وقد سبق أن الأستبداد المشؤوم يؤثر على الأجسام فيورثها الأسقام ، ويسطوا على النفوس فيفسد الأخلاق ، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم . بناء عليه تكون التربية والأستبداد عاملين متعاكسين في النتائج ، فكل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الأستبداد بقوته ، وهل يتم بناء وراءه هادم ؟
الأنسان لاحد لغايتيه رقيا وانحطاطا . وهذا الأنسان الذي حارت العقول فيه ، الذي تحمل امانة تربية النفس ، وقد أبتها العوالم ، فأتم خالقه استعداده ثم أوكله لخيرته (اي اختياره) ، فهو ان يشأ الكمال يبلغ فيه الى ما فوق مرتبة الملائكه ، وان شاء تلبس بالرذائل حتى يكون أحط من الشياطين ، على أن الأنسان اقرب للشر منه للخير . وكفى أن الله ما ذكر الأنسان في القرآن ، الا وقرن اسمه بوصف قبيح كظلوم وغرور وكفار وجبار وجهول وأثيم . ما ذكر الله تعالى الأنسان في القرآن الا وهجاه فقال : " قتل الأنسان ما أكفره"(عبس :الآية 17) ، "ان الأنسان لكفور" (سورة الحج : الآية 66) ، "ان الأنسان لفي خسر" (سورة العصر : ألاية 2)، "ان الأنسان ليطغى " (سورة العلق ، ألاية 6) ، "وكان الأنسان عجولا"(سورة الأسراء ، الآية 11) ، " خلق الأنسان من عجل"( سورة الأنبياء ، ألاية 38) . ما وجد من مخلوقات الله من نازع الله في عظمته ، والمستبدون من الأنسان ينازعونه فيه ، والمتناهون في الرذالة قد يقبحون عبثا لغير حاجة في النفس حتى وقد يتعمدون الأساءة لأنفسهم .
الأنسان في نشاته كالقصن الرطب فهو مستقيم لدن بطبعه ، ولكنها أهواء التربية تميل به الى يمين الخير أو شمال الشر ، فاذا شب يبس وبقي على أمياله ما دام حيا . بل تبقى روحه الى أبد الآبدين في نعيم السرور بايفائه حق وظيفة الحياة أو في جحيم الندم على تفريطه. وربما كان لاغرابة في تشبيه الأنسان بعد الموت بالمرء الفرح الفخور اذا نام ولذت له الأحلام ، أو بالمجرم الجاني اذا نام فغشيته قوارص الوجدان بهواجس كلها ملام وآلام .
التربية ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والأقتباس ، فأهم أصولها وجود المربين واهم فروعها وجود الدين . وجعلت الدين فرعا لاأصلا ، لأن الدين علم لايفيد العمل اذا لم يكن مقرونا بالتمرين . وهذا هو سبب أختلاف الأخلاف من علماء الدين عند الأسلام عن أمثالهم من البراهمة والنصارى ، وهو سبب اقبال المسلمين في القرن الخامس وفيما بعده ، على قبول أصول الطرائق التي كانت لبا محضا لما كانت تعليما وتمرينا أي تربية للمريدين، ثم خالطها القشر ، ثم صارت قشرا محضا ، ثم صار أكثرها لهوا أو كفرا .
ملكة التربية بعد حصولها ان كانت شرا تضافرت مع النفس ووليها الشيطان الخناس فرسخت ، وان كانت خيرا تبقى مقلقة كالسفينة في بحر الأهواء ، لايرسو بها الا فرعها الديني في السر والعلانية ، أو الوازع السياسي عند يقين العقاب .
والأستبداد ريح صرصر في اعصاريجعل الأنسان كل ساعة في شان ، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق ؛ واما العبادات منه فلايمسها لأنها تلائمه في الأكثر .ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات فلاتفيد في تطهير النفوس شيئا ، ولاتنهى عن فحشاء ولامنكر لفقد الأخلاص فيها تبعا لفقده في النفوس ، التي ألفت أن تتلجا وتتلوى بين يدي سطوة الأستبداد في زوايا الكذب والرياء والخداع والنفاق؛ ولهذا لايستغرب في الأسير الأليف تلك الحال ، أي الرياء ، أن يستعمله أيضا مع ربه ، ومع ابيه وأمه ومع قومه وجنسه ، حتى ومع نفسه .
التربية تربية الجسم وحده الى سنتين ، هي وظيفة الأم أو الحاضنة ، ثم تضاف اليها تربية النفس الى السابعة ، وهي وظيفة الأبوين والعائلة معا ، ثم تضاف اليها تربية العقل الى البلوغ ، وهي وظيفة المعلمين والمدارس؛ ثم تأتي تربية القدوة بالأقربين والخلطاء الى الزواج ، وهي وظيفة الصدفة؛ ثم تأتي تربية المقارنة ، وهي وظيفة الزوجين الى الموت أو الفراق .
ولابد أن تصحب التربية من بعد البلوغ ، تربية الظروف المحيطة ، وتربية الهيئة الأجتماعية ، وتربية القانون او السير السياسي ، وتربية الأنسان نفسه .