الأستبداد والتربية (3)

ثم ان عبيد السلطة التي لاحدود لها هم غير مالكين أنفسهم ؛ ولاهم آمنون على أنهم يربون أولادهم لهم . بل هم يربون أنعاما للمستبدين ، وأعوانا لهم عليهم . وفي الحقيقة أن الأولاد في عهد الأستبداد ، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق . فالتوالد من حيث هو زمن الأستبداد حمق ، والأعتناء بالتربية حمق مضاعف ! وقد قال شاعر شاعر :
ان دام هذا ولم تحدث له غير لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
وغالب الأسراء لايدفعهم للزواج قصد التوالد ، انما يدفعهم اليه الجهل المظلم وأنهم حتى الأغنياء منهم محرومون من كل الملذات الحقيقية : كلذة العلم وتعليمه ، ولذة المجد والحماية ، ولذة الأيثار والبذل ، ولذة احراز مقام في القلوب ، ولذة نفوذ الرأي الصائب ، ولذة كبر النفس عن السفاسف ، الى غير ذلك من الملذات الروحية .
أما ملذات هؤلاء التعساء فهي مقصورة على لذتين اثنتين : الأولى منها لذة الأكل وهي جعلهم بطونهم مقابر للحيوانات ان تيسرت ، والا فمزابل للنبات ، أوبجعلهم أجسامهم في الوجود كما قيل انابيب بين المطبخ والكنيف (اي المرحاض) ، أو جعلها معامل أعدت لتجهيز الأخبثين . واللذة الثانية هي الرعشة باستفراغ الشهوة ، كأن اجسامهم خلقت دمامل جرب على أديم الأرض يطيب لها الحك ووظيفتها توليد الصديد ودفعة ، وهذا الشره البهيمي في البعال (أي الأزواج) هو ما يعمي الأسراء ويرميهم بالزواج والتوالد .
العرض ، زمن الأستبداد ، كسائر الحقوق غير مصون ، بل هو معرض لهتك الفساق من المستبدين والأشرار من أعوانهم ، فانهم ، كما أخبر القرآن عن الفراعنة ، يأسرون الأولاد ويستحيون النساء ، خصوصا في الحواضر الصغيرة والقرى المستضعف أهلها . ومن الأمور المشاهدة أن الأمم التي تقع تحت أسر أمة تغايرها في السيماء ، لايمضي عليها أجيال الا وتغشو فيها سيماء ألاسرين : كسواد العيون في الأسبانيول ، وبياض البشرة في الأفريقيين . وعدم الأطمئنان على العرض ، يضعف الحب الذي لايتم الا بالأختصاص ، ويضعف لصقة الأولاد بازواج امهاتهم فتضعف الغيرة على تحمل مشاق التربية ، تلك الغيرة التي لأجلها شرع الله النكاح وحرم السفاح .
للسعة والفقر أيضا دخل كبير في تسهيل التربية ، وأين الأسراء من السعة . كما أن لأنتظام المعيشة ولو مع الفقر علاقة قوية في التربية ، ومعيشة الأسراء أغنياء كانوا أو معدمين ، كلها خلل في خلل وضيق في ضيق ، وذلك يجعل الأسير هين النفس ، وهذا أول دركات الأنحطاط ؛ ويرى ذاته لايستحق المزيد في النعيم مطعما ومشربا وملبسا ومسكنا ، وهذا ثاني الدركات ؛ ويرى استعداده قاصرا عن الترقي في العلم ، وهذا ثالثها ؛ ويرى حياته على بساطتها لاتقوى الا بمعاونة غيره له ، وهذا رابعها ، وهلم جرا !!
بناء عليه ما أبعد الأسراء عن النشاط للتربية ، ثم لماذا يتحملون مشاق التربية وهم ان نوروا أولادهم بالعلم جنوا عليهم بتقوية احساسهم، فيزيدونهم شقاء ويزيدونهم بلاء ، ولهذا لاغرو أن يختار الأسراء الذين فيهم بقية من الأدراك ، ترك أولادهم هملا تجرفهم البلاهة الى حيث تشاء .
واذا افتكرنا كيف ينشأ الأسير في البيت الفقير وكيف يتربى ، نجد أنه يلقح به وفي الغالب أبواه متناكدان متشاكسان ، ثم اذا تحرك جنينا حرك شراسة أمه فشتمته ، أو زاد آلام حياتها فضربته ؛ فاذا ما نما ضيقت عليه بطنها لألفتها الأنحناء خمولا والتصرر صغارا ، والتقلص لضيق فراش الفقر ؛ ومتى ولدته ضغطت عليه بالقماط اقتصادا أو جهلا ، فاذا تألم وبكى سدت فمه بثديها ، أو قطعت نفسه خضا أو بدوار السرير ، أو سقته مخدرا عجزا عن نفقة الطبيب ، فاذا ما فطم ، يأتيه الغذاء الفاسد يضيق معدته ويفسد مزاجه ؛ فان كان قوي البنية طويل العمر وترعرع ، يمنع من رياضة اللعب لضيق البيت ؛ فان سأل واستفهم ماذا وما هذا ليتعلم ، يزجر ويلكم لضيق خلق أبويه ؛ وان جالسهما ليألف المعاشرة وينتهي عنه التوحش ، يبعدانه كي لايقف على أسرارهما فيسترقها منه الجيران الخلطاء ، فتنمى الى أعوان الظالمين وما أكثرهم ؛ فاذا قويت رجلاه يدفع به الى خارج الباب ، الى مدرسة الألفة على القذارة ، وتعلم صيغ الشتائم والسباب ؛ فان عاش ونشأ وضع في مكتب أو عند ذي صنعة ، فيكون أكبر القصد ربطه عن السراح والمراح . فاذا بلغ الشباب ، ربطه أولياءه على وتد الزواج كي لايفر من مشاكلتهم في شقاء الحياة ، ليجني هو على نسله كما جنى عليه أبواه ؛ ثم هو يتولى التضييق على نفسه بأطواق الجهل وقيود الخوف ، ويتولى المستبدون التضييق على عقله ولسانه وعمله وأمله.
وهكذا يعيش الأسير من حين يكون نسمة في ضيق وضغط ؛ يهرول ما بين عتبة هم ووادي غم ، يودع سقما ويستقبل سقما الى أن يفوز بنعمة الموت مضيقا دنياه مع آخرته ، فيموت غير آسف ولامأسوف عليه .
وما أظلم من يؤاخذ الأسراء على عدم اعتنائهم بلوازم الحياة . فالنظافة مثلا : لماذا يهتم بها الأسير ؟ هل لأجل صحته وهو في مرض مستمر ، أم لأجل لذته وهو المتألم كيفما تقلب جسمه أو نظره ؟ أم لأجل ذوق من يجالس أو يؤاكل ، وهو من عفت نفسه صحبة الحياة ؟
ولايظنن المطالع أن حالة أغنياء الأسراء هي أقل شرا من هذا ، كلا ، بل هم أشقى وأقل عافية وأقصر عمرا من هذا ؛اذا نقصتهم بعض المنغصات ، تزيد فيهم مشاق التظاهر بالراحة والرفاه والعزة والمنعة ، تظاهرا ان صح فكثيره الكاذب ، حمل ثقيل على عواتقهم كالسكران يتصاحى فيبتلى بالصداع ، أو كالعاهرة البائسة تتضاحك لترضي الزاني .
حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام ، فهي حياة لاروح فيها ، حياة وظيفتها تمثيل مندرسات الجسم فقط ولاعلاقة لها بحفظ المزايا البشرية ؛ وبناء على هذا ، كان فاقد الحرية لاأنانية له (لايشعر بذات مستقلة) لأنه ميت بالنسبة لنفسه ، حي بالنسبة لغيره ، كأنه لاشيء في ذاته ، انما هو شيء بالأضافة . ومن كان وجوده في الوجود بهذه الصورة وهي الفناء في المستبدين ، حق له أن لايشعر بوظيفة شخصيه فضلا عن وظيفة أجتماعية . ولولا أن ليس في الكون شيء غير تابع لنظام حتى الجماد ، حتى فلتات الطبيعة والصدف التي هي مسببات لأسباب نادرة ، لحكمنا بأن معيشة الأسراء هي محض فوضى ، لاشبه فوضى .
على أن التدقيق العميق ، يفيدنا بأن للأسراء ، قوانين غريبة في مقاومة الفناء يصعب ضبطها وتعريفها ، انما الأسير يرضعها مع لبن أمه ويتربى عليها ، وقد يبدع فيها بسائق الحاجة ؛ ويكون منهم الحاذق فيها علما ، الماهر في تطبيقها عملا ، هو الموفق في ميدان حرب الحياة مع الذل ، كالهنود واليهود . والعاجز عنها ، اما جاهل هذا القانون أو العاجز فطرة عن اتباعه كالعرب مثلا ، فلا يخرج عن كونه كرة يلعب بها صبيان ألأستبداد ، تارة يضربون بها الأرض أو الحيطان ، وأخرى تتناولها أرجلهم بالصفعان ؛ وهذا اذا كان عجز الأسير عن جهل ، وأما اذا كان عجزه كما يقال عن عرق هاشمي ، أي عن شيء منكرامة نفس أو قوة احساس أو جسارة جنان ، فيكون كالحجارة تتكسر ولاتلين .