منتدى مدينة الملوك - مديرية جبن
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى مدينة الملوك - مديرية جبندخول

منتدى مدينة الملوك - مديرية جبن


descriptionكتاب عن العروبة والأسلام للدكتور عصمت سيف الدولة Emptyكتاب عن العروبة والأسلام للدكتور عصمت سيف الدولة

more_horiz






الحلقة الأولى

عن العروبة والاسلام




د.عصمت سيف الدولة











بسم الله الرحمن الرحيم


( فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض)


( الرعد : 17 )


صدق الله العظيم


المحتويات


بيان


5


الفصل الأول


الظالمون


لزوم ما لايلزم


5


الإنتماء المتعدد


7


عن الأمة


10


الدين والمجتمع


16


أمة الإسلام


21


أول دستور


24


العدوان


33


الوحدة


37


دولة الخلافة


42


الإمبراطورية


46


الدولة الممكنة


52


الهروب إلى الماضي


63


الفصل الثاني


المنافقون


لماذا المنافقون


66


قصة "العلمانية"


71


في اليهودية


73


أزدواج السلطة


75


الصراع


79


النهاية


82


الدولة ، ما الدولة ؟


83


عودة إلى الوطن


89


وفي الإسلام


90


النفاق


91


الإسلام وأصول الحكم


94


الخليفة والسلطان


97


متى ؟


100


دين للدنيا


104


قصة حياة مسلم


111


التقدم والعلم


118


آية المناهضة


123


الفصل الثالث


الجواب


أغتصاب العقول


126


الإمبريالية الحضارية


127


قادة الرأي العام


130


الإنسان الهدف


131


إعتراض جانبي


135


ذو الحدين


136


الشخصية العربية


138


مصر العربية


139


عن الماضي الاقليمي


140


الانتماء القومي


144


اتجاهات الشباب العربي


148


مشكلات الحياة


150


القهر المادَي


151


التخريب والتغريب


159


خلاصة


163


الاستعمار الجديد


163


فهل يفلحون ؟


172


ثورة الشباب


173


اسطورة الامام شامل


175


لماذا إذن؟


180


هل يعرفون ؟


180


بيــــان


في الوطن العربي طائفتان اختلفتا فاتفقتا . طائفة تناهض الاسلام بالعروبة وطائفة تناهض العروبة بالاسلام . فهما مختلفتان . وتجهل كلتاهما العروبة والاسلام كليهما فهما متفقتان . وإنهما لتثيران في الوطن العربي عاصفة غبراء من الجدل تكاد تضل الشعب العربي المسلم عن سبيله القويم . وانهما لتحرضان الشباب العربي على معارك نكراء تكاد تلهيه عن معركة تحرير أمته .


هذا حديث الى الشعب العربي عن الطائفتين تباعاً . سيقول نفر ممن يقرأونه : مابال هذا الرجل يتلو آيات الكتاب لايلتمس فيها عوناً من رجال الدين ، فنقول لأننامسلمون ، ولاكهانة في الاسلام . وسيقول نفر : ماباله يتحدث عن الأمة العربية لايلتمس عوناً من مفكريها ؟ فنقول لهم : هذا مذهبنا . مذهبنا الاسلامي في القومية ومذهبنا القومي في الاسلام ، فلينظروا ماذا هم فاعلون . أما الطائفتان فسينظرهم الشعب العربي إلى حين


( إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ) { يونس : 49 } صدق الله العظيم .


د . عصمت سيف الدولة


القاهرة : ايلول / سبتمبر 1985




descriptionكتاب عن العروبة والأسلام للدكتور عصمت سيف الدولة Emptyرد: كتاب عن العروبة والأسلام للدكتور عصمت سيف الدولة

more_horiz

الحلقة الثانية : من كتاب عن العروبة والأسلام
للدكتور عصمت سيف الدولة

الفصل الأول

الظــــالمــــــون


لزوم مالايلزم


1 - إن الحديث عن " العروبة والاسلام " ليس حديثاً عن كل من الاسلام والعروبة بل هو حديث عن العلاقة بينهما . فهل يحتاج الشعب العربي ، في هذة المرحلة من تاريخه ، إلى معرفة العلاقة بين العروبة والاسلام ليحل مشكلات تحرره وتقدمه ؟ هل يقف الشعب العربي ، في هذه المرحلة من تاريخه ، موقف الاختيار الملزم بين العروبة والاسلام ليدافع عن حرية أمته ووحدتها وتقدمها ؟ ... هل تلزمه العروبة بغير مايلزمه به الاسلام ، فعليه أن يختار فيما بينهما لتحرر وطناً ومواطناً ؟ ... أبداً إنه شعب معتدى عليه من خارجه ، اغتصاباً واحتلالا وهيمنة وتبعية . ومعتدى عليه من داخله ، قهرا وظلما واذلالا واستغلالا .


فإن هو استجاب لما تلزمه به العروبة ، ولو لم يع من العروبة إلا انها انتماء إلى احياء من البشر كفته أدنى قوانين الحركة . إن كل الكائنات الحية مسلحة بقانون " الفعل المنعكس الشرطي " للدفاع عن ذواتها إذا ما أحاط بذواتها الخطر ؛ تردَ الفعل حتى لولم تكن فاعلة . فما بال العربي تكاد المخاطر المحيطة به أن تعصف بوجوده ذاته . ومابال الانسان العربي ، وهو المسلَح ، دون الكائنات جميعاً ، بقانون الجدل الذي يملك به المقدرة على إدراك التناقض بين واقعه وحاجته ، ويعرف به اسباب حل هذا التناقض ، ويستطيع به أن يجسد بعمله في الواقع مايوقف به معاناته ويفرض به ارادته . فإن وعى العروبة انتماء إلى أمته لعرف معرفة اليقين ان التناقض الاساسي بين واقعه وحاجته يتمثل في أن ليس كل ماهو متاح في أمته من أسباب التحرر والتقدم متاحاً له ليتحرر ويتقدم ، لأن العدوان الخارجي يسلبه إمكانات مادية وبشرية هو صاحبها بحكم أنها إمكانات أمته ، فيحول دون أن يطَور حياته بما هو ممكن ومتاح لاأكثر ولاأقل ، ولأن العدوان الداخلي يسلبه القدر الأكبر مما أفلت من العدوان الخارجي فيستأثر به من دونه احتكارا واستغلالا ، ثم يفرض عليه تلك القسمة الضيزى بالقهر والظلم والاذلال ، ويحول دون ثورته بما يبقيه عليه من جهل وفقر ومرض فيبقيه عاجزاً عن استرداد امكانات مادية وبشرية هو صاحبها بحكم أنها إمكانات أمته فلا يستطيع أن يطور حياته بماهو ممكن ومتاح ، لاأكثر ولاأقل . وإنه ليعرف معرفة اليقين ان العدوان الخارجي والعدوان الداخلي حليفان عليه يحقق كل منهما بعدوانه مايمكَن الآخر من العدوان ، ولو لم يكونا متحالفين . فإن كان أكثروعياً لوعى دلالة الدروس الصارمة التي يتلقاها كل يوم من أحداث عصره ، لعرف معرفة اليقين أن لاأمل ، لاأمل على الاطلاق ، في أن يتقدم حرية ورخاء بقدر ماهو متاح في أمته إلا بأن يواجه أعداءه جميعاً فيسترد حريته ويقيم وحدته القومية . وإنه ليتعلم كل يوم أن البشرية قد دخلت عصر الانتاج الكبير والدول العملاقة ، وان مصير الاقزام من الدول أن تحتمي ، راغبة أو كارهة ، بمظلة التبعية السياسية لدفع خطر العدوان ، والتبعية الاقتصادية لدفع غائلة الجوع ، وأن تدفع من حرية وطنها اثماناً باهظة لمن يحميها أو يغذيها . يحميها ولو من بطشه ذاته . ويغذيها ولو من ثروتها ذاتها . وإن بعض هذا ، وليس كله لقمين بأن يحدد للشعب العربي اعداءه بأسمائهم ودولهم ونظمهم ، وبأن يحفزه ويحرضه على سحقهم سحقاً ، إذ أن سحقهم سحقا هو الطريق الوحيد المفتوح إلى التحرر والوحدة والتقدم ثم الرخاء .


أما إن استجاب الشعب العربي لما يلزمه به الاسلام فقد تلقى من الله أمراً صريحاً بالقتال ضد المعتدين : قال تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) { البقرة : 194 } ، وقال : ( ومالكم لاتقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا اخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ) { النساء : 75 } . ثم قضى، سبحانه ، بأن من سكت على الظلم قد ظلم نفسه ، وأنذره بجهنم مع الظالمين أنفسهم . قال


( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) { النساء : 97 } . إنه سبحانه ، لايحرض على الهجرة ، بل يتحدى بها مماحكات الأذلاء . قبل الهجرة المقاومة . بكل حيلة وكل سبيل . قال تعالى مكملا نذيره : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ولايهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفواً غفورا) { النساء : 98 ،99 } .


ثم انه سبحانه ، قد حرَم السلبية والتواكل ، وانذر بأن شيئا من الحياة التي يكرهها الناس لن يتغير إلا إذا غيَر الناس مابأنفسهم . قال ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) { الرعد :11 } . وقال : ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) { هود : 117 } . وذهب في تحريض المظلومين على المقاومة الى حد أنه علَمهم أنه ، سبحانه ، يحب منهم المقاومة حتى لو كانت أداتها سيئة ، وإن مقاومة الظلم تبيح كل الوسائل وتطهرها مما يكون في طبيعتها من سوء . قال ( لايحب الله الحهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) {النساء : 148 } . ثم انه قد أخبر بأن الاعتذار عن التقصير فيما يجب ، بأن ثمة من ضلل المقصرين ، اعتذارغير مقبول . وانه لايقبل من أحد أن يتهم غيره بأنه قد أضله ليبرىء نفسه من الضلال . قال تعالى :


( كلما دخلت أمة لعنت أختها ، حتى إذا ادَاركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلَونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ، قال لكل ضعف ولكن لاتعلمون ) { الأعراف : 38 } . فدل على أن الغفلة التي تمكَن المضللين من ضحاياهم ذنب من ذنوب الضحايا انفسهم يضاف الى ماظلموا به أنفسهم ، فيضاعف لهم العذاب وأخيرا قضى بأن من قبل الذل كفر حين قضى بأن : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) { المنافقون : 8 } .


وإن بعض هذا وليس كله لقمين بأن يحدد للشعب العربي اعداءه باسمائهم ودولهم ونظمهم ، وأن يحفزه ويحرضه على سحقهم سحقا ، إذ أن سحقهم سحقا هو الطريق الوحيد المفتوح إلى طاعة الله ورضوانه .


إذن ، لايقف الشعب العربي ، في هذه المرحلة من تاريخه ، موقف الاختيار الملزم بين العروبة والاسلام ليدافع عن أمته وحريته وتقدمه . يكفيه ايهما . أمَا هما معاففوق كفايته . ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، فإن الشعب العربي في حاجة الى الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام .





الانتماء المتعـدد


فهل يكون ذلك لأن كلاً من الاسلام والعروبة علاقة انتماء الى مضمون واحد أو مضامين متشابهة ، مما قد يؤدي الى الخلط بينهما فيلزم تحديد العلاقة بينهما منعا للخلط ؟ ... أبداً أيضاً . إن الاسلام علاقة انتماء إلى دين ( عقيدة ) . هكذا جاء رسالة ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) {الصف : 9 } . وهكذا ارتضاه الله لنا حين اكتمل . ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ) { المائدة :3 } . ثم وصانا بالابقاء على علاقة الانتماء الى الدين هذه والمحافظة عليها (شرع لكم من الدين ماوَصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولاتتفرقوا فيه ) { الشورى : 13 } . أما العروبة فعلاقة انتماء إلى أمة بشطري تكوينها : الشعب والأرض ، وما أثمرشطراها على مدى التاريخ من حضارة : إنها انتماء إلى وضع تاريخي بينما الدين وضع إلهي .


وقد تلتقي القبائل والشعوب والامم في علاقة انتماء إلى دين واحد . ألم تر كيف تحدث القرآن عن الرسل والانبياء واقوامهم ثم وحد بينهم في الدين فكانوا مسلمين . ( ماكان ابراهيم يهودياً ولانصرانياً ولكن كان حنيفا ً مسلماً ) { آل عمران : 67 } . ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب : يابنيَ إ ن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) { البقرة : 132 } . ( قولوا آمنَا بالله وماأنزل إلينا وما أنزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) { البقرة : 136 } . ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا به واشهد بأنا مسلمون ) { آل عمران : 52 } . إذ ( إن الدين عند الله الاسلام ) { آل عمران : 19 } مع انه ، سبحانه ، قد شاء أن تتعدد الأمم . ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين ) { هود : 118 } . ثم ألم تر أن الله يقول عن كتاب المسلمين ( أأعجمي وعربي ؟ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) { فصلت : 44 } . وحدة الكتاب هنا لم تلغ تمايز الناس عجما ً وعرباً وإن التقوا عليه هدى وشفاء . وقال الله تعالى ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) { الحجرات : 13 } . فأقر التمايز بين المجتمعات من حيث طور التكوين الاجتماعي .إذ القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي تلتقي ، فتتميز على وحدة النسب العرقي ، حقاً أو وهماً ، ولاتنتسب إلى أرض تخصها من دون الناس ولو كانت مقيمة عليها أما الشعب فجماعة أكثر تطوراً باستقرارها على أرض تخصها من دون الناس تنتسب اليها وتتوه فيها الانساب العرقية فلا يعتد بها في التمييز . كذلك قيل ان القبائل هم الحجازيون ، أما الشعوب فحيث يتميز الناس بنسبتهم إلى الأرض فيما يلي الحجاز جنوباً من سبأ وحضرموت وما يليهم شمالاً من الروم ، وشرقاً من الفرس . المهم أن القرآن قد أشار إلى التمايز بين القبائل والشعوب والأمم ولكنه لم يجعل لهذا التمايز أثراً نافياً لوحدة العقيدة .


وقد يتعدد الانتماء الديني( العقائدي ) في الأمة الواحدةبدون أن يمس التعدد وحدة الأمة . وفي القرآن عشرات الآيات التي تنظم العلاقة الاجتماعية بين المنتمين الى أديان متعددة في الأمة الواحدة وتوصي برعايتها .


( قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) { آل عمران : 64 } . فلنتأمل . ان الاسلام لايدعوا اهل الكتاب في المجتمع الواحد الى التخلي عن دينهم والانتماء اليه . لايدعوهم اليه بل يدعوهم معه . ليعيشوا معاً على كلمة " سواء " .. ليست كلمة المسلمين وليست كلمة أهل الكتاب ، بل كلمة سواء بينهم جميعاً على ماهو مشترك في الاديان السماوية ( ألا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئاً ) . أما فيما بينهم فلا سيطرة ولاهيمنة ولا استعلاء ولا قهر . لا من جانب المسلمين ولا من جانب أهل الكتاب . ( ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) . وأهل الكتاب ، كما هو معروف ، هم النصارى واليهود . إنهم ليسوا مسلمين ، ولكن هذا لايعني انهم ليسوا مواطنين صالحين بل ( من اهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين ) { آل عمران : 113 ، 114 } . إنهم يحققون بعملهم خلاصة ماجاء للاسلام يأمر به المسلمين ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، واولئك هم المفلحون ) { آل عمران : 104 } .


والقرآن يتحدث عن المسلمين وأهل الكتاب الذين ينتمون إلى أمة واحدة أو شعب واحد . من أجل هذا نظم علاقات التعايش فيما بينهم اجتماعيا مع أنهم مختلفون دينا . إنهم ينتجون معا ويستهلكون معا ويتزاورون ويستضيف بعضهم بعضا ، فقال : ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) { المائدة : 5 } . وقد تنشأ فيما بينهم أوشاج المودة فيود المسلم لو تزوج من كتابية تكون سترا له ، ويأتمنها على نفسه وماله وتربية أولاده ، فأحل الزواج بها ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) . وأمر بحفظ أعراضهن الى حد ان قرن بين الزنا بالكتابية وتعبير الكفر حتى لو كانت راضية فأتم الآية بقوله ( محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ، ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ) { المائدة : 5 } . وفي هذه الحياة الاجتماعية المشتركة ، مع اختلاف الدين ، لايستبعد أن يتحاور المسلمون وأهل الكتاب حول أيهم أصح انتماء الى عقيدته وأية عقيدة هي الحق ، فحرص القرآن على ألا يسمح المسلم لهذا الحوار بأن يصلإلى حد المساس بوحدة انتمائهم إلى مجتمع واحد . قال فأمر


( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) { العنكبوت : 46 } . فإن أوفى المسلم بما أمر وأحال بعض أهل الكتاب الحوار إلى خصومة أو عداوة فإن القرآن يوصي المسلمين بألا يحيلوا العداوة إلى شقاق وتمزق ، مقَراً بأن العداوة بين الناس في المجتمع الواحد لاتقطع علاقة الانتماء المشتركة إلى هذا المجتمع . بل إن القرآن يذهب إلى حد تنبيه المسلمين إلى أن قد تنتهي العداوة إلى مودة كما نبههم في آية أخرى إلى أن قد يكون القتال الذي يكرهونه خير كثير . كذلك العداوة . قال : ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ، والله قدير والله غفور رحيم ) { الممتحنة : 7 } .


لم يأذن الله للمسلمين بقتال غير المسلمين ممن ينتمون معهم إلى مجتمع واحد إلا في حالتين : الأولى ، محاولة غير المسلمين إكراه المسلمين بالقتال على الردة عن دينهم ، والثانية ، قيام غير المسلمين بإخراج المسلمين من ديارهم . قال تعالى : ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ، إن الله يحب القسطين . إنَما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولَوهم ، ومن يتولَهم فأولئك هم الظالمون ) { الممتحنة : 8 ،9 } .


فما البرَ الذي أحب الله من المسلمين أن يبرَوا به ابناء امتهم من غير المسلمين ؟ ... إنه من ( آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) { البقرة : 177 }. وما القسط الذي أحب الله من المسلمين أن يقسطوه إلى أبناء أمتهم من غير المسلمين ؟ إنه العدل : ( فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لايظلمون ) { يونس : 47 } . ولا يقوم العدل إلا على أساس المساواة بين الناس .


إذن فهذه حياة اجتماعية كاملة ينظم الاسلام علاقات الناس فيها على أساس من انتمائهم إلى مجتمع واحد بما يحفظ للمجتمع أمته ووحدته ، ويساوي بين المنتمين إليه بدون مساس بتعدد علاقات الانتماء الديني بين أفراده.


3 -ثم أن الاسلام علاقة انتماء تنشأ بالتمييز ، فالادراك ، فللايمان . تقف فيه مهمة الرسول عند ابلاغ الرسالة : ( ماعلى ارسول إلا البلاغ ) { المائدة : 99 } . . ( وماعلى الرسول إلا البلاغ المبين ) {العنكبوت:18 } . وما ينبغي لرسول أن يذهب إلى أبعد من هذا . ( ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) { النساء : 80 } . ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا ) { الشورى : 48 } . ( فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر ) { الغاشية : 21 ، 22} . ( ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) { النحل : 125 } . وفي كل الحالات حرم الاسلام إكراه غير المسلمين على الانتماء إليه إكراهاً مادياً أو معنوياً وناط الايمان بحرية الاختيار . ( لاإكراه في الدين قد تبين ارشد من الغي ) { البقرة : 256 } . ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) { يونس : 99 } .


كان هذا ، ولم يزل ، سبيل الاسلام إلى الايمان الذي يفترض سلامة العقل ورشده ، وأمثلته كثيرة في القرآن : ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج . والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) { ق : 6، 7 } . ( قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ؟ قل أرأيتم ان حعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ) { القصص : 71، 72 } ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وماأنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء ةالأرض لآيات لقوم يعقلون ) { البقرة : 164 } . ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) { الأنبياء : 22 } . ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) { البقرة : 242 } ... الخ .


ثم ليؤمن من يريد وليكفر من يريد . ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) {الكهف :29}


وقد وضع الله في كل إنسان العقل مقدرة على الايمان أو الكفر وله الخيار . ( إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً . إناهديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ) { الانسان : 2 ،3 } . ثم يأتي يوم الحساب فيلقى كل إنسان جزاء ما اختار وعمل . ( ولاتجزون إلا ماكنتم تعملون ) { يس : 54 } . (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) { غافر : 17 } . ( كل امرىء بما كسب رهين ) { الطور : 21 } .


وهكذا يستطيع إي انسان مميز غير مكره أن يختار الاسلام ديناً ، أو أن يختار ديناً غيره أو أن يكفر بكل الاديان على مسؤوليته في الدنيا والآخرة .


أما العروبة فعلاقة انتماء إلى وضع تاريخي تدرك العربي منذ مولده وتصاحبه حتى وفاته ولو لم يكن مميزاً ، ولو لم يدركها ، ولو كفربها . لايستطيع أي انسان أن ينتمي إلى العروبة أو أن ينسلخ منها ، ولو أراد . إذ الانتماء إلى العروبة وليد تطور تاريخي سبقه ولحقه ، فكان عربياً بغير ارادته، أو سبقه ولم يلحقه فلم يكن عربياً ولو أراد ، لاحيلة له في الحالتين . وهل أختار أحد والديه ؟ وهل أختار أحد وطنه ؟ بل هل اختار أحد " شخصيته " ؟


4 - ثم أن الاسلام علاقة انتماء الى دين خالد في الزمان بحكم انه خاتم الرسالات والاديان . ( ماكان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) { الأحزاب : 40 } . وخالد في المكان بحكم أنه رسالة إلى كل البشر . ( قل يأيها الناس اني رسول الله اليكم جميعاً ) { الأعراف : 158 } . ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) { سبأ : 28 } . أما العروبة فعلاقة انتماء مقصورة على شعب معين من بين الشعوب ومكان معين من الأرض ، علاقة انتماء الى أمة تكونت خلال مرحلة تاريخية طويلة كاستجابة موضوعية لحتمية تقدم الشعوب بعد أن استنفذت العلاقة الأسرية ثم العشائرية ثم القبلية ثم الشعوبية كل طاقاتها على تحقيق التقدم . فهي لم تواكب الزمان بداية . وحين تستنفذ الأمة العربية كل طاقاتها على تحقيق التقدم سيتقدم البشر الى علاقات انتماء تتجاوزها تكويناً وطاقة . فهي ليست خالدة في الزمان .


5 - لامجال ، إذن للخلط بين علاقة الانتماء إلى العروبة وعلاقة الانتماء إلى الاسلام لافي الأشخاص ، ولا في المضمون ، ولا في حدود الانتماء من الزمان أو المكان . وما تزال علاقة الانتماء إلى الأسرة ، أو الى القرية ، أو الى المهنة ، أو الى الحزب قائمة بجوار علاقة الانتماء إلى الدولة أو الوطن أو الشعب بدون خلط أو اختلاط . فلا يقوم لدى الشعب العربي سبب للخلط بين العروبة والاسلام . ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، فإن الشعب العربي في حاجة إلى الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام

descriptionكتاب عن العروبة والأسلام للدكتور عصمت سيف الدولة Emptyرد: كتاب عن العروبة والأسلام للدكتور عصمت سيف الدولة

more_horiz


الحلقة الثالثة

عن الأمـــــــة
6 - فهل يكون ذلك لأن العروبة علاقة انتماء إلى " أمة " عربية ، وأن تسمية العرب " أمة " تخصيص غير مبرر إسلامياً ، إذ الأمة في الاسلام هي " أمة المسلمين " أو" الأمة الاسلامية " ، فتكون مقولة " الأمة العربية " بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ؟ ... قد يكون . ولقد كان نفر ممن يتوهمون أن الاسلام دينهم وحدهم ، وأن الانتماء إليه مقصور عليهم دون الناس كافة يتخذون من فهمهم الخاص لدلالة كلمة " أمة " مدخلاً إلى نفي الوجود القومي للأمة العربية بإسم الاسلام . ثم يزيد بعضهم أن الانتماء إلى الأمة العربية هو في حقيقته انتماء اصطنع اصطناعاً لستر مواقف معارضة أو معادية للاسلام . ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) { الكهف : 5 } .
فلنحتكم إلى كتاب الله لعلَهم يهتدون . قال تعالى : ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه ، قل إنما أمرت أن اعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعو وإليه مآب .وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ) { الرعد : 36 : 37 } .
7 - وردت كلمة " أمة " في أربع وستين آية من آيات القرآن الكريم وكانت كلها ذات دلالة واحدة إلا في أربع آيات . أولى هذه الآيات جاءت في سورة النحل . قال الله تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفا ولم يك من المشركين ) { الآية : 120 } . فدلت الأمة على أن ابراهيم كان قدوة يؤتم به . وجاءت كلمة الأمة بمعنى الأجل في قوله تعالى : ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) { هود : 8 } . وجاءت في آيتين بمعنى العقيدة أو الطريق . قال تعالى : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )
{ الزخرف : 23 } .
فيما عدا ذلك جاءت كلمة أمة في الآيات الباقيات للدلالة على مطلق الجماعة إذا تميزت عن غيرها أياً كان مضمون المميز . دلَ على أن الأمة جماعة انها في كل موضع جاءت في موقع الفاعل الغائب أشير اليها في الفعل بواو الجماعة . مثل في قوله تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ) { آل عمران : 104 } .
وقوله( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق ) { الأعراف : 159 } . وقوله : ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق)
{ الأعراف : 181 } . وقوله ( وماكان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) { يونس : 19 }
ودلَ على أن الأمة مطلق الجماعة أنها قد جاءت في القرآن داَلة على الجماعة من الناس والجماعة من الجن والجماعة من الحيوان والجماعة من الطير . قال تعالى : ( قال أدخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والانس ) { الأعراف : 38 } . وقال : ( وما من دابة في الأرض ولاطائر يطير بجناحيه إلا أمم ) {الانعام:38 } . وبعد ان أخبرنا عن أمر نوح عليه السلام وما اصطحبه في الفلك من أنواع المخلوقات في قوله تعالى : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل ) { هود :40 } ، قص علينا ماأمر به نوحاً : ( قيل يانوح اهبط منها بسلام منَا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) { هود : 48 } . يعني الجماعات المتميزة نوعيا من المخلوقات التي اصطحبها نوح معه .
8 -ولما كان التمايز يفترض التعدد لتكون الجماعة متميزة عن غيرها علمنا القرآن أن الأمم متعددة في الزمان والمكان . أثبت التعدد أولا وأرجعه إلى مشيئة الله حتى يكف الجدل في حكمته وأكده في أكثر من آية
قال : ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) { النحل : 93 } . وقال : ( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ) {الشورى : 8 } . وتحدث عن الأمم بصيغة الجمع في ثلاث عشرة آية أخرى .
أما عن التعدد في الزَمان ففي البدء كان الناس امة واحدة متميزين " أمة " بأنهم من الناس . قال تعالى : ( كان الناس أمة واحدة ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ماجاءتهم البينات بغيا بينهم ، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) {ا لبقرة : 213 } . وقال ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) { يونس : 19 } . فالتعدد بدأ نفاذا لكلمة سبقت من الله بأن تكون الأمم متعددة وسيبقى قائما . قال تعالى : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولايزالون مختلفين ) { هود : 118 } . فإذا جاءت الآخرة فإنهم أمم متعددة . قال تعالى ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) { النساء : 41 } . وقال Sad ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا )
{ النمل :83 } . وقال : ( ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم ) { القصص : 75 } . وقال :
( ولله ملك السماوات والأرض ، ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون . وترى كل أمة جاثية ، كل أمة تدعى إلى كتابها ، اليوم تجزون ماكنتم تعملون ) { الجاثية : 27 ، 28 } .
ومابين البداية والنهاية تتابع الأمم المتعددة على آجال الزمان . لكل أمة أجل معلوم . قال تعالى : ( تلك أمة قد خلت ، لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ) { البقرة : 134 ، 141 } . وقال : ( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ) {الأعراف : 34 } . وقال : ( لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة )
{ يونس: 49 } . وقال ( كذلك أرسلناك فىي أمة قد خلت من قبلها أمم ) { الرعد :30 } . وقال : ( ماتسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) { الحجر : 5 } . وقال : ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) {المؤمنون : 43 } . وقال : ( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء ) { الأنعام : 42 } . وتكرر قوله هذا أو معناه في{ النحل :63 والعنكبوت :18 وفَصلت :25 والأحقاف : 18 } . وتمايزت الأمم بالرسل فتعددت بتعدد الرسل ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ان اعبدوا الله ) { النحل : 36 } . وتعددت بتعدد الرسالات : كل امة تدعى إلى كتابها ) { الجاثية : 28 } . وتعددت بتعدد المناسك ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) { الحج : 67 } .
ثم أن القرآن قد علمنا أنه كما تتعدد الأمم على مدى الزمان فإنها متعددة في الزمان الواحد ، أو كما نقول في المكان ( قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) { هود : 48 } . فهذه أمم متعددة تواجدت معاً في مكان واحد . وثمة أمم متعددة توزعت في الأرض ، قال تعالى : ( وقطَعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ، وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلَهم يرجعون ) { الأعراف : 168 } .
9 - هذه الآية الأخيرة - وفي القرآن غيرها كثير - تعلمنا أسباب التعدد في الزمان والمكان كليهما . إذ هي تطلق كلمة الأمة على الجماعة التي تميزت بأنها صالحة كما تطلقها على الجماعة التي تميزت بأنهاغير صالحة . فنعرف من الآية أن الجماعة تكون أمة متى اشترك أفرادها فيما يميزهم عن غيرهم بصرف النظر عن مضمون هذا المميز . على هذا الوجه كان الناس أمة بما تميزوا به من كونهم ناسا . تميزوا عن أمة من الجن . وعن أمة من الحيوان . ولما كانت المميزات متعددة فإن الأمم متعددة بدون تشابه أو تعارض أو تناقض وان اشتركت جميعا في انها جماعات متميزة . قال تعالى : ولكل أمة رسول ) { يونس : 47 } . وقال : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله ) { النحل : 36 } . فدل على أن تلك جماعات كانت متميزة بالكفر فاستحقت رسلا يدعونها الى عبادة الله . أما بعد الرسل فكل المؤمنين برسولهم أمة بما تميزوا به من رسول وكتاب ومناسك . أوضح مثال ماجاء متتابعامن الآيات في سورة المائدة ، قال تعالى : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) { الآية 44 } وبعد أن فصل بعض آيات التوراة في الآية 45 قال في الآية 46 : ( وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ) وبعد أن بيَن في الآية 47 حكم الخروج على أحكام الانجيل جاءت الآية 48 لتقول : ( وانزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ) . هكذا تحدث القرآن عن الأديان السماوية الثلاثة تباعا ثم قال : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) { المائدة : 48 } . فدَل على أنه في نطاق الأمة المتميزة بالايمان بالله يتوزع المؤمنون أمما تتميز كل منها برسولها وشرعتها ومنهاجها . وتصدق دلالة الكلمة في الحالتين بدون تشابه أو تعارض أو تناقض ، إذ أن مناط التميز في كل حالة مختلف عنه في الحالة الأخرى .
10 - ولأنه لاعبرة في دلالة " الأمة " بمضمون الأمر الذي تميزت به الجماعة فأصبحت أمة فأن الجماعة المتميزة بالكفر بالرسالة ومناهضة رسولهاهي أيضاً أمة . ولقد ذكرنا من قبل قوله تعالى Sad وقطعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ) {الأعراف : 168 } . نضيف هنا آيات بينات أخر . قال تعالى : ( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك يقلبهم في البلاد . كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ) { غافر : 4،5 } . وقال : ( وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) { هود : 48 } . وقال ( وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ) { العنكبوت : 18 } . وقال : ( كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادَاركوا فيهاجميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباَ ضعفامن النار ، قال لكل ضعف ولكن لاتعلمون ) { الأعراف : 38 } .
11 - وقد تكون جماعة من الناس لم تلتق زماناً أو مكاناً ولكنهم يشتركون في صفة خاصة بهم مقصورة عليهم يتميزون بها عن غيرهم . إنهم حينئذ أمة . كذلك أسمى آيات القرآن جميع الرسل والأنبياء أمة واحدة مع أنه - سبحانه - قد أسمى كل جماعة آمنت برسول منهم أمة . فابتداء من الآية 48 من سورة الأنبياء يتحدث القرآن عن الرسل والأنبياء ، فيذكر موسى وهارون وابراهيم ولوطاً ونوحاً وداوود وسليمان وأيوب واسماعيل وادريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيى ثم يقول : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) { الأنبياء : 92 } . ولم يشتبه هذا أو يتعارض أو يتناقض مع الحديث عن بني يعقوب وحدهم على أنهم أمة حين أخبر باشتراكهم في الايمان بإله أبيهم . قال تعالى : ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ماتعبدون من بعدي ، قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم و إسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون . تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) { البقرة : 133، 134 } .
وإذا كان المؤمنون بكل رسول أمة ، فإن منهم من يكونون أمة بما يتميزون به من استراك في نشاط الدعوة أو منسك من مناسك العبادة . في المعنى الأول قال الله تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) { الأعراف : 159 } . وفي المعنى الثاني قال تعالى : ( من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) { آل عمران : 113 } . ويلاحظ أنه عندما أراد أن يتحدث عن جماعة متميزة بالهداية أو بالتلاوة بين جماعة هي أمة من حيث تميزها برسولها أو بكتابها ايمى الجماعة الأولى " أمة " وأشار إلى الجماعة الثانية بما يميزها ، مكتفياً به في التعريف بها دون أن يسميها أمة إظهاراً للمميزات القصود أظهارها ، وتلك قمة من قمم البلاغة في القرآن .
على أي حال ، فإن القرآن قد أسمى الجماعة المتميزة أمة حتى حين كان مميَزها أمراً لايتصل بالعقيدة ايماناً أو كفراً . فأسمى الجماعة المتميزة بعلاقة قربى أمة فتعددت الأمم بتعدد الغروع ، بعد أن كان قد أسمى كل الأقرباء أمة حين اجتمعوا فتميزوا بأصلهم الواحد . قال تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) { الأعراف : 160 } . وهو واضح الدلالة على أنه حيث تتميز الجماعة تكون أمة في لغة القرآن ،
ولايمنع هذا من أن تكون جزءاً من أمة على وجه آخر مما يميز الجماعات .
12 - بل إن كلمة أمة تدلَ على الجماعة ولو لم تتميز إلا بموقف واحد في حالة واحدة . بهذا المعنى اسمى المقتصدين في الانفاق بدون اسراف أو تقتيرأمة . قال : ( منهم أمة مقتصدة وكثيرمنهم ساء ما يعملون ) {المائدة : 66 } . وقال : ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ) { القصص : 23 } .
وكلمة الأمة في هذه الآية لاتعني مجرد الجماعة بل تعني الجماعة المتميزة بموقف واحد أو حالة واحدة . جماعة تسقي وحدها دون الآخرين . وكانت تسميتهم أمة إبرازاً لهذا المميز حتى تبرز الحالة الأخرى التي أخبر بها في الآية فقال : ( ... ووجد من دونهم امرأتين تذودان ، قال ماخطبكما ، قالتا لانسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) { القصص : 23 } .
13 - هذه هي دلالة كلمة " الأمة " في لغة القرآن . وبهذه الدلالة كان المسلمون ، كل المسلمين ، وما يزالون وسيبقون ، أمة واحدة من حيث تميزهم عن غيرهم من الناس بانتمائهم الديني إلى الاسلام ، سواء أخذت كلمة الاسلام بمعناها الشامل الدين كله في قوله تعالى : ( وإذ يرفع اباهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل مناإنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ){ البقرة : 127 ، 128 } .
أو أخذت بمعناها الخاص بالذين يؤمنون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام . ولقد خاطب القرآن المسلمين بهذا التخصيص واسماهم أمة . قال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس ) { آل عمران : 110 } ، وقال :
( وكذلك جعاناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء ) { البقرة : 143 } . وقال : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفَرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على سفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن النكر ، وأولئك هم المفلحون . ولاتكونوا كالذين تفَرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيَنات ، وأولئك لهم عذاب عظيم ) { آل عمران : 103 : 104 ، 105 } .
14 - وبهذه الدلالة كانت الاغلبية الساحقة من الشعب العربي ، وما يزالون وسيبقون ، جزءاً لايتجزأ من الأمة الاسلامية التي ينتمي اليها كل المسلمين في الأرض بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأممهم ودولهم وأوطانهم . لافضللأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى . في رحاب هذا الانتماء إلى الأمة الاسلامية يلتقي مئات الملايين من البشر . ولو أن مسلماً واحداً قد وجد في أي أرض ، في أي شعب ، في أية أمة ، في أية دولة ، لكان واحداً من الأمة الاسلامية . وما تزال هذه الأمة الاسلامية تنمو عدداً بمن يهتدي إلى الاسلام ديناً في أقطار الأرض جميعاً .
15 - وبهذه الدلالة أيضاً ، دلالة كلمة الأمة في لغة القرآن ، يكون كل العرب منتمين إلى أمة عربية واحدة ،حيث يكون مميزهم عن شعوب وأمم أخرىما يميز الأمم عن الشعوب والقبائل ، أو مايميز الأمم بعضها عن بعض من وحدة اللغة كما قال فخته الألماني ، أو وحدة الأرض والأصل والعادات واللغة والاستراك في العادات والشعور كما قال مانتشيني الايطالي ، أو وحدة الرغبة في الحياة المشتركة كما قال رينان الفرنسي ، او وحدة التاريخ واللغة والحياة الاقتصادية والثقافية المشتركة كما قال ستالين السوفياتي ، أو وحدة اللغة والاشتراك في التاريخ كما قال استاذنا أبو خلدون ساطع الحصري ، أو كان مميز الأمة انها " مجتمع ذو حضارة متميزة ، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة تكوَن نتيجة تطور تاريخي مشترك "...
كما اجتهدنا فقلنا ... لايهم هذا الخلاف في بيان عناصر التميز القومي للأمة . المهم أنه حيث يوجد المميز القومي لجماعة من الناس يصح في لغة القرآن كتاب المسلمين ، أن تسمى الجماعة أمة ، ولا ينكره عليها مسلم وهو مسلم ، مادام لاينكر المسلم وهو مسلم أن كل جماعة متميزة حتى من الدواب هي " أمة " فكيف بالمسلم ينكر على جماعة قومية الانتماء أنهم أمة . والأمة كما تتميز بوحدة العلاقة القومية ، لاتتشابه ولا تتعارض ولا تتناقض مع الأمة كما تتميز بوحدة العلاقة الدينية . فلا تتشابه ولا تتعارض ولا تتناقض " الأمة العربية " مع " الأمة الاسلامية " ؛ كما لاتتشابه ولا تتعارض ولاتتناقض الأمة الفرنسية والأمة الانكليزية والأمة الالمانية والامة الايطالية ... مع كون كل هذه الأمم تنتمي عقيدة إلى الأمة المسيحية . كل من الانتمائين قائم ، ولكن كل منهما ذو مضمون مختلف .
16 -مرتان في التاريخ الذي نعرفه قيل غير مانقول . قيل إن للانتماء الديني والانتماء القومي مضموناً واحداً وأن لكل دين أرضاً ولكل أرض ديناً . وكان العرب هم الضحايا في المرتين . أما المرة الأولى فحينما اشتعلت الحروب على امتداد الأرض الأوروبية بين أمراء الاقطاع كل يريد أن يزيد مساحة اقطاعيته . فقال لهم البابا أربان الثاني : " إن الأرض التي تقيمون عليهالاتكاد تنتج مايكفي غذاء الفلاحين ، وهذا هو السبب في اقتتالكم ، فانطلقوا إلى الاماكن المقدسة ، وهناك ستكون ممالك الشرق جميعاً بين أيديكم فاقتسموها " . لم يكن للدين المسيحي شأن بما يقتتل من أجله أمراء الاقطاع فقد كانوا جميعاً مسيحيين ، ولم يكن لما نصح به البابا شأن بالمسيحية دين المحبة والسلام ، وإنما كان للمؤسسة الكنيسة التي يرأسها البابا شأن بالأرض التي خربها القتال فقد كانت شريكة في ريعها . وكان القائل والمستمعون اليه يعرفون ألاَ شأن للمسيحية بما قيل . فقال أحد الفرنسيين حينئذ إنها دعوة ‘لى أن يستغل الفرنسيون الدين . وقد استغل الفرنسيون وغير الفرنسيين الدين ليقنعوا الشعوب بأن تقدم ابناءها ضحايا على مذابح أطماع الأمراء الاقطاعيين . كيف ؟ بمقولة بسيطة ، كالناس في ذاك العصر : إن نشأة المسيحية في فلسطين تعني ملكية المسيحيين لفلسطين فعليهم استعادتهامن الغزاة المسلمين . وهكذا وحَد المعتدو بين مضمون الانتماء إلى المسيحية ومضمون الانتماء إلى أرض فلسطين وبدأت الحروب الصليبية التي استمرت قرناً كاملاً ( من عام 1096 الى عام 1192 ) وذهب ضحيتها آلاف البشر . وما توقفت إذ توقفت إلا حينما استطاع العرب ، مسلمين ومسيحيين ، أن يقنعوا الأوروبيين ، بالاسلوب المناسب ، بألا جدوى من الخلط بين الانتماء إلى العقيدة والانتماء إلى الأرض ، فتحررت الأرض العربية . فهل يتبنى المسلم الأفكار الصليبية ؟
أما المرة الثانية ، فحبنما أراد المتخلفون من يهود أوروبا أن يخرجوا من عزلتهم القبلية " الغيتو " ، وأرادت الرأسمالية النامية في أوروبا أن تسخرهم عازلاً بشرياً يحول دون وحدة الأمة العربية ويحرس مصالح الامبريالية ، فصاغوا جميعاً ما يعرف " بالصهيونية " . وليست الصهيونية إلا فكرة متخلَفة تخلَف سكان الغيتو
تقول : إن كل من توحدوا ديناً لهم حق في أن يتوحدوا وطناً ودولة . وهي فكرة قابلة للستعارة ولو تغير مضمونها اليهودي . فكل زعم أن الانتماء الى الدين يلد حقاً في الأرض ، بصرف النظر عن الانتماء القومي الى الأمة أو الانتماء الوطني الى الدولة ، هو في حقيقته المذهبية " صهيوني " ولو لم يكن يهودياً ، وهم كثير . كما أن من ينكر هذا المذهب لايكون صهيونياً ولو كان يهودياً ، واهم كثيراً أيضاً . ولما كان لابد لكل دولة من أرض ( وطن ) ، فقد أختار الرأسماليون الأوروبيون والصهاينة من اليهود أرض فلسطين اختياراً "صليبياً"
إن نشأة اليهودية في فلسطين تعني عندهم ملكية فلسطين لليهود ، فعليهم استعادتها من الغزاة العرب . وهكذا وحَد المعتدون بين مضمون الانتماء الى اليهودية ومضمون الانتماء الى أرض فلسطين وبدأ الصراع العربي الصهيوني ، وما يزال مستمراً ، ولن يتوقف إلا حينما يستطيع العرب ، مسلمين وغير مسلمين ، أن يقنعوا الصهاينة ، بالأسلوب المناسب ، بألا جدوى من الخلط بين الانتماء الى العقيدة والانتماء الى الأرض ، فتتحرر الأرض العربية . فهل يتبنى المسلم الأفكار الصهيونية ؟
الحمد لله . لايقوم ، إذن ، لدىالشعب العربي سبب للتشابه أو التعارض أو التناقض بين العروبة والاسلام . ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، فإن الشعب العربي في حاجة الى الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام .

descriptionكتاب عن العروبة والأسلام للدكتور عصمت سيف الدولة Emptyرد: كتاب عن العروبة والأسلام للدكتور عصمت سيف الدولة

more_horiz



الحلقة الرابعة


الدين والمجتمع





17 - فهل يكون ذلك لأن عدم تشابه ، أو تعارض أو تناقض ، علاقة الانتماء إلى الاسلام وعلاقة الانتماء إلى العروبة يثير وهم انتفاء العلاقة بين الاسلام والعروبة إلى حد الاستغناء بأحدهما عن الآخر ؟ قد يكون . والمسلم المؤمن لاتغنيه عن دينه أرض الدنيا كلها . والعربي القومي لاتغنيه عن أمته كل أمم الأرض . وما يثير الأوهام إلا الجهل . وهو - هنا - جهل بالاسلام وجهل بالعروبة ، فجهل بالعلاقة " العضوية " بينهما .


الجهل بالاسلام يؤدي إلى أخذه على أنه مجرد دين فلا يحيط بما يميز الاسلام من بين الأديان . والجهل بالعروبة يؤدي إلى أخذهما على أنها مجرد دين فلا يحيط بما يميز الأمة العربية من بين الأمم . ( تمييز وليس امتيازاً ) . فإن اجتمعا انتفى العلم بما بين الاسلام خاصة والأمة العربية خاصة من علاقة خاصة لامثيل لها - فيما نعرف من تاريخ الأديان والأمم - بين أي دين وأية أمة . فهل نبدأ من البداية ؟


قلنا ونعيد إن الاصل في " الدين " عامة أنه كان عنصراً من عناصر التكوينات الاجتماعية المختلفة التي كانت وحدة "الاصل" محور تكوينها ( الأسر والعشائر والقبائل ) وانقلب الأجداد الذين ماتوا آلهة يعبدهم نسلهم من الأحياء ، ويتميزون بهم عن ذوي " الأجداد - الالهة " الاخرين . ثم استقر " الاله " مميزاً لكل قبيلة ، فكان لكل قبيلة إلهها الخاص تختاره طبقاً لظروفها الخاصة ، وتعبده طبقاً لتقاليدها الخاصة ، وتلتمس منه العون في تحقيق مصيرها الخاص . فإذا تعددت مشكلاتها لم يكن ثمة مايمنع أن يكون لكل قبيلة أو مجموعة من القبائل عدد من الآلهة يختص كل منهم بإسداء العون في واحدة من تلك المشكلات على ماكانوا يعتقدون . فثمة إله للحرب ، وإله للزرع ، وإله للصيد ، وإله للملاحة ، وإله للحب أيضاً ... الخ ، ولكنها ، حتىوهي مجموعة خاصة ، كانت تقوم بالوظيفة المشتركة للاله في المجتمعات القبلية وما دونها من مجتمعات عشائرية وأسرية فهي " رمز " يجسد الوجود الاجتماعي المستقل لكل جماعة ويميزها عن غيرها . كل هذا لايزال قائماً في المجتمعات القبلية المعاصرة .


فلما جاءت الرسالات السماوية والرسل من عند الله إلى مجتمعات قبلية أرسل إلىكل قبيلة رسولاً من أبناءها يدعوها إلى إله واحد . ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) { النحل : 36 } . والأمثلة كثيرة في القرآن ( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين ) { هود : 25 } . وإلى عاد أخاهم هودا ، قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ) { هود :50 } . وإلى ثمود أخاهم صالحاً ، قال ياقوم اعبدوا الله مالكم إله غيره ) { هود : 61 } . وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) { هود : 84 } . وكان بنو اسرائيل من المجتمعات القبلية التي أرسل إليها خاصة ، رسول من عند الله :أرسل إليهم موسى عليه السلام أ ولاً Sad وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني اسرائيل) {الاسراء : 2 } . ( وإذ قال موسى لقومه لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله إليكم ) { الصف : 5 } . ثم ارسل اليهم عيسى عليه السلام : ( وإذ قال عيسى بن مريم يابني اسرائيل إني رسول الله إليكم ) {الصف:6 } . ولقد كان كل الرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن يحملون دعوة واحدة هي " التوحيد "


( اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) ، ولكن لم تكن أي منها دعوة انسانية . نعني موجهة إلى الناس جميعاً . غير أن هذا التوجيه قد بدا محدوداً في رسالة موسى ، ثم فتحت أبوابه في رسالة عيسى ، لتتهيأ الانسانية لاستقبال رسالة محمد ، عليهم السلام جميعاً .


فلقد أمر موسى بأن يتجاوز برسالته محيط قبيلته من بني إسرائيل ، وبأن يذهب الى فرعون ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) { طه : 24 } . فتدخل الحذر القبلي من الاتصال بغير أبناء القبيلة ، فالتمس موسى من مصادر القوة مالم يكن في حاجة إليه وهو آمن في قبيلته . ( قال رب اشرح لي صدري . ويَسر لي أمري . واحلل عقدة من لساني . يفقهوا قولي . واجعل لي وزيراً من اهلي . هارون أخي . اشدد به أزري ) { طه : 25 -31 } . ( قال قد اوتيت سؤالك ياموسى ) { طه : 36 } . ( اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) { طه : 42 : 43 } . موسى وهارون يحملان رسالة إلى من لاينتمون الى بني اسرائيل . إلى طاغية معين بصفته حاكماً ( فرعوناً ) في مصر ، وإلى طاغيين معينيين بالاسم : قارون وهامان ( وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ) { العنكبوت : 39 } . كانت تلك بداية خروج الرسالة الدينية من الاطار القبلي إلى الاطار الشعبي .


فقد كان الناس في مصر مستقرين في وادي النهر لايتمايزون فيما بينهم بما يميز القبائل من وحدة النسب الحقيقي أو الموهوم . وكانت آلهتهم رموزاً للبيئة الجغرافية ولم تكن رموزاً لحدود قبائل متجاورة . وكان فوقهم فرعون إلهاً وابن إله وملكاً ومالكاً وحيداً للأرض والناس وخالداً بعد الموت لايموت . فكانت رسالة موسى وأخيه هارون موجهة إلى " شعب " في مصر مخاطباً في شخص حاكمه فرعون ورجاله .


ولكن هذا الخروج بالدين من الاطار القبلي إلى الاطار الشعبي بقي محدوداً في وسيلته وفي مداه . وإنا لنفهم من الآيات أن موسى وهارون لم يذهبا الى فرعون ويواجهاه منفردين بدون حشد قبلي من بني إسرائيل . إذ ماان رفض فرعون الاستجابة للرسالة وبدأت المطاردة حتى طارد فرعون وجنده " بني إسرائيل " وليس موسى وهارون وحدهما . ( يابني اسرائيل قد انجيناكم من عدوكم ) { طه : 80 } . فنلاحظ أن رفض فرعون رسالة موسى وهارون كان عند بني اسرائيل عداء لهم جميعاً . وتلك إحدى خصائص المجتمعات القبلية . كل هذا يعني - عندنا - أن موسى وهارون لم يكونا وحدهما منذ البداية ، بل كانا يبلَغان الرسالة في حماية قبلية . وقد يكون ذلك ما أفزع فرعون فحسب الأمر ستاراً للاستيلاء على الحكم فنراه يحشد قومه تحت شعار الملك . ( ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر ) { الزخرف : 51 } . ثم إن موسى لم يرسل إلى شعب آخر مرة ثانية .


أياً ماكان الأمر فإن المسيح عيسى بن مريم هو الذي سيسمو بالدين فوق الانتماء القبلي والشعبي ويطرح لأول مرة وحدة الدين في الانسانية ، أو وحدة الانسانية في الدين ، ويبشر بأنه يمهد لتقبل رسالة الاسلام . فلقد عرفنا من القرآن ، أنه ، عليه السلام ، كان رسولاً إلى بني اسرائيل . وقد بقي كذلك ما بقي رسولاً . ولكن رسالته اليهم كانت تتضمن إضافة إلى ماحمله موسى . كانت تتضمن دعوة وبشرى بالخروج من مضيق علاقة الانتماء القبلي إلى رحاب الأخوة في الدين . ( وإذ قال عيسى ابن مريم يابني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديَ من التوراة ومبشراً برسول من بعدي أسمه أحمد ) { الصف : 6 } . فلما كذَبوه حدث ذلك الحدث الجليل الذي تطور به الدين فأصبح علاقة انتماء إلى السماء بعد أن كان مقترناً بعلاقات الانتماء العشائرية على يد إبراهيم ونوح ، والقبلية على يد هود وصالح وشعيب وموسى . سقطت علاقات الانتماء العشائري والقبلي ، وسمت علاقة الانتماء الديني لتكون في " الله " الواحد الأحد وحده . قص علينا القرآن قصة تلك الطفرة العظيمة في الآية 52 من سورة آ ل عمران . قال : ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ، قال الحواريون نحن أنصار الله ، آمنا بالله ، واشهد بأنا مسلمون ) .


18 - إنا نتابع تطور الدين على مستوى علاقته بتطور التكوين الاجتماعي من العشيرة الى القبيلة ، الى الشعب ، لنصل إلى حيث نرى علاقة الدين بالأمة أو علاقة الاسلام بالعروبة وهو موضوعنا الأصيل .


وليس مما يلزم لبيان مانريد أن نعرض لتفصيل مضمون الشرائع كيف تطَور متسقاً مع تطور المجتمعات . ومع ذلك لانرى بأساً في أن نشير إلى ماتتضمنه الشريعة الموسوية من خصائص ماتزال تحمل الطابع القبلي.


وما تتضمنه الشريعة المسيحية من خصائص فائقة التجريد الانساني . هذا مع علمنا بأن مايقال له " التوراة " المتداولة الآن ، ليست كلها ماتلقاه موسى ، وبأنها كتبت قبل أن تكتشف " التوراة - الرسالة " في عهد الملك يوشيَا بعد وفاة موسى بنحو سبعة قرون ( سفر الملوك الثاني ، اصحاح 22 ) . وان الاناجيل الأربعة هي ماكتبه أربعة من تلاميذ السيد المسيح . إلا أن تلك الكتب وما أضيف إليها من شروح هي مصادر الشريعتين كما يعيشه اليهود والنصارى في الغالب من مذاهبهم .


إن أظهر الخصائص القبلية في كتاب " التوراة " الموضوع ، الحرص الفائق على بيان الأنساب . إنه يتضمن تاريخ العالم لاعلى أساس التطور البشري أو المادي أو تتابع الأحداث الاحتماعية السلمية أو الحربية ، بل مبتدئاً بمن تزوج ، ثم كم أنجب ، ثم يتتبع الأولاد وأولاد الأولاد ومن تلاهم جيلاً جيلاً ، أسماً أسماً ، الى أن يصل الى البناء القبلي لبني اسرائيل ليقول ، أو ليثبت ، أن كل اليهود في كل مكان من الأرض ، ومن أي جنس وأي لون هم سلالة الاسباط الاثني عشر ابناء يعقوب ( اسرائيل ) بن اسحاق بن ابراهيم . هذه العناية بإثبات وحدة الأصل العرقي واحدة من أهم مميزات المجتمع القبلي لأن وحدة النسب هي مناط الانتماء إلى القبيلة . ( مقابل " الهوية " مناط الانتماء إلى الدولة في عصرنا الحديث ) . ولقد كانت كل القبائل ، وماتزال ، تحرص على حفظ أنسابها كما حرص اليهود في التوراة .


ولم تكن القبائل العربية أقل حرصاً على أنسابها منهم أو من غيرهم . ثم يأتي الاله الخاص " يهوه " الذي وعد شعبه بأن يقوده " إلى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وآبار محفورة لم تحفرها وكروم زيتون لم تغرسها " ( سفر التثنية . اصحاح 6 آية 11 ) . ثم يأتي الرمز القبلي للقوة ( الطوطم ) . وهو عندهم جبل صهيون حيث التقى " يهوه بجدهم يعقوب وتصارعا مصارعة جسدية لم يهزم فيها يعقوب فأعجب الاله به وباركه واختاره وأسماه اسرائيل " ( سفر التكوين : 32 آية 25 - 29 ) . ثم التضامن البشري والمالي بين أفراد القبيلة فتصبح أرملة الأخ المتوفي زوجة لأخيه بعد الوفاة بدون حاجة إلى ايجاب أو قبول أو عقد حتى لاتشرد أنثى من القبيلة بشخصها أو بمالها . ولقد كان هذا النظام سائداً في القبائل العربية قبل الاسلام حيث كانت زوجة الأب المتوفىتصبح زوجة لابنه فحرَمه الاسلام . وأخيراً العداء ، بدون حد أو قيد تشريعي أو اجتماعي أو أخلاقي ، لمن لا ينتمون إلى القبيلة . قال حكماء صهيون : " اضربوهم وهم يضحكون . اسرقوهم وهم لاهون . قيدوا أرجلهم وانتم راكعون . ادخلوا بيوتهم وأهدموها . تسللوا إلى قلوبهم ومزقوها " ومن قبلهم قال إله بني اسرائيل " إني ادفع الى ايديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك ، لاتقطع معهم ولامع آلهتهم عهداً . لايسكنون في أرضك لئلا يجعلوك تخطىء " 0 (سفر الخروج : اصحاح23 آية22و23 ) . إن حديث إله بني اسرائيل عن آلهه آخرين بدون إنكار مكتفياً بمنع التعاهد معهم واضح الدلالة على ماتحمله التوراة الموضوعة من آثار العصر القبلي ، حيث لكل قبيلة إله تعبده ، فيرعاها .


عكس هذا تماماً ماجاءت به المسيحية . لقد جاءت المسيحية تقدم إلى الناس علاقة انتماء إلى " ملكوت الله " بديلاً عن علاقات الانتماء العرقية والاقتصادية . هذا هو جوهر الديانة المسيحية . أخوة البشر جميعاً في الله ودعوتهم إلى أن يتحرروا من علاقات الانتماء القبلية والاقتصادية لينتموا إلى ملكوت الله . أما عن الانتماء الاقتصادي ( الملكية ) التي تميز الناس بعضهم عن بعض ، فقد أدانها السيد المسيح ادانة حاسمة . " وفيما هو خارج إلى الطريق ، ركض واحد وجثا له وسأله : ايها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟ فقال له يسوع : لماذا تدعوني صالحاً . ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله . أنت تعرف الوصايا : لاتزن ، لاتقتل


لاتسرق ، لاتشهد بالزور ، أكرم أباك وأمك . فأجاب وقال له : يامعلم هذه كلها حفظتها منذ حداثتي . فنظر إليه يسوع وأحبَه وقال له : يعوزك شيء واحد اذهب وبع كل مالك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب . فاغتم علىالقول ومضى حزيناً لأنه كان ذا أموال كثيرة . فنظر يسوع حوله وقال لتلاميذه ماأعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله . فتحير التلاميذ من كلامه . فأجاب يسوع أيضاً وقال لهم : يابنيَ ، ماأعسر دخول المتكلين على الأموال الى ملكوت الله " انجيل مرقص . اصحاح 10 آية 17-25 ) . بقي الانتماء الأسري أو العشائري أو القبلي القائم على قرابة الدم . ولقد أنكر المسيح تقديمه أو مساواته بالأخوة في الدين . " وفيما هو يكلم الجموع أذا أمه واخوته قد وقفوا خارجين طالبين أن يكلموه . فقال له واحد هوذا امك وأخوتك واقفون خارجاً طالبين أن يكلموك فأجاب وقال للقائل له : من هي أمي ومن هم أخوتي . ثم مد يده نحو تلاميذه وقال هاأمي واخوتي . لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي " ( انجيل متى ، اصحاح 12 آية 46-50 )


19 - أما عن البشرى بالاسلام فقد التمسها البعض في كلمة " الانجيل " حيث تعني في أصلها اللغوي "البشرى " . وقيل إنما جاءت فيما رواه يوحنا في انجيله من أن المسيح قد قال : " ومتى جاء المعَزي الذي سأرسله انا اليكم من الأب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي " ( الاصحاح 15 آية 26 ) . ولسنا نرى في أي القولين مايدل على البشرى بالاسلام على وجه التحديد . ولعل الصعوبة في الاهتداء إلى البشرى من أقوال عيسى عليه السلام ماغلب على تلك الاقوال من الصيغ الرمزية ، وما قد يكون شاب النقل عنه في الانجيل من قصور . على أي حال فإنَا نعتقد أن أول عناصر البشرى قد جاء في الَزبور ( الكتاب الضي أنزل على داوود ) . ففيه يقول: " الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية " (المزمور118 ). ولقد كان بنو اسرائيل يعرفون في ذلك الوقت أن جدهم ابراهيم كان قد بنى الكعبة للمرة الرابعة ومعه اسماعيل ولده من هاجر ، وفي الكعبة يقوم الحجر الأسود رأساً للزاوية . ولم ينل ذلك مما كان بنو اسرائيل يتباهون به من أن كل الانبياء والرسل منهم واليهم فقال متَى في انجيله : " قال لهم يسوع أما قرأتم قطَ في الكتب . الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية . من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا . لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره " ( الاصحاح 21 آية 42، 43 ،44 ) . فدَل كل هذا على أن ملكوت الله ( الدين ) سينتقل إلى الأمة القائمة عند الكعبة حيث الحجر رأس الزاوية . وذلك ماعرفته جماعة من المطلعين على الكتب المقدسة مثل عبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل .. وورقة بن نوفل فتوقعوا الرسالة الجديدة حيث جاءت ، وصدقها ورقة بن نوفل ابن عم خديجة زوج الرسول بمجرد أن أخبرته بأول الوحي .


على أي حال ، تلك كانت الطفرة في المضمون من دين المجتمعات القبلية إلى دين الانسانية تأكيداً لما قلنا من قبل عن اتساق تطور الدين مع تطور المجتمعات في التكوين من الاسرة إلى العشيرة إلى القبيلة إلى الشعب . بهذا تم التمهيد ليجيء رسول من غير بني اسرائيل يحمل رسالة إلى الناس جميعاً ، فيكون لها شأن ، وأي شأن ، بالأمة العربية .


20 - ثم جاء الاسلام ليتوحد الين ويكتمل . ( هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) { الفتح :28 } . (ألا لله الدين الخالص ){ الزمر : 3 }. جاء شاملاً في المضمون ماجاءت به الاديان السابقة مما يتسق مع كونه آخر الرسالات . فهو الدين منذ إبراهيم حتى محمد . ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملَة ابراهيم ) { الأنعام : 161 } . ( وانزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ) { المائدة : 48 } .


ولقد كان المضمون المشترك في كل الأديان السماوية هو التوحيد ، فجاءت أرقى وأكمل صيغة للتوحيد في سورة الاخلاص ( قل هو الله أحد . الله الصمد لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد ) . ثم أضافت التوراة إلى التوحيد الوصايا العشر . تبدأ " إني أنا الباقي إلهكم الذي أخرجكم من مصرمنزل عبودتكم فلا تتخذوا آلهةً غيري " ثم لاتشرك بي شيئاً . لاتعمل في اليوم السابع . أكرم اباك وأمك ... لاتقتل . لاتزن . لاتسرق . لاتشهد على قريبك شهادة زور . لاتسلب مال قريبك . لاتشته زوجة قريبك ( سفر الخروج . اصحاح 20 الآيات : 2- 17 ) . انها الوصايا إلى المجتمع القبلي تحمل بصماته حين يقتصر التحريم على مايضير الأقارب وحين يقتصر العمل على ستة أيام وهو تقليد قبلي سابق على رسالة موسى .


فجاء المسيح عليه السلام لينزع عن تلك الوصايا لباسها القبلي ويحيلها إلىمواقف " روحية " مجردة من كل مايتصل بظروف الحياة على الأرض . حولها إلى مثل عليا من القيم الانسانية غير متوقفة على ظروف الانسان . قال : " قد سمعتم أنه قيل للقدماء لاتقتل . ومن قتل يكون مستوجب الحكم . وأمَا أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم " .... " قد سمعتم إنه قيل للقدماء لاتزن ، وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى إمرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه . فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك " .... " أيضاً سمعتم أنه قيل للقدماء لاتحنث بل أوف للرب أقسامك . وأما أنا فأقول لكم لاتحلفوا البتة " .... " سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن . وأما أنافأقول لكم لاتقاوموا الشر . بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً " .... " سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك . وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم . باركوا لاعنيكم " ... الخ .( انجيل متى . اصحاح 5 آية : 21-48 ) . في الآية الأخيرة من الاصحاح يحدد المسيح عليه السلام غاية الوصايا بأنها الكمال الالهي . " فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل " .


جاءت الوصايا العشر هذه فيالقرآن نظاماً للتعامل بين الناس في حياة إنسانية واقعية . لاقبلية ولا تجريدية. جاءت متتابعة في ثلاث آيات من سورة الأنعام : ( قل تعالوا أتل ماحرَم ربكم ،عليكم ( 1 ) ألا تشركوا به شيئاً (2) وبالوالدين إحساناً ( 3 ) ولاتقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم (4) ولا تقربوا الفواحش ماظهر منها وما بطن ( 5 ) ولاتقتلوا النفس التي حرَم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( 6) ولاتقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشَده ( 7 ) وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، لانكلف نفساً إلا وسعها ( Cool وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ( 9) وبعهد الله أوفوا ، ذلكم وصاكم به لعلَكم تذكَرون


(10 ) وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )


الآيات : ( 151،152،153) .


21 - وكان لابد - لكي يكتمل الدين انتماء كما اكتمل مضموناً - من أن يكون الاسلام رسالة إلى الناس كافة ومفتوحاً لانتماء الناس جميعاً بصرف النظر عن انتماءاتهم الاسرية أو العشائرية أو القبلية أو الشعوبية أو القومية . وقد كان . ( قل ياأيها الناس اني رسول الله اليكم جميعاً ) { الأعراف : 158 } . ( وما ارسلناك إلا كافة للناس ) { سبأ : 28 } . هذا هو الجديد على الانسانية مما جاء به الاسلام . ليس دقيقاً فيما نرى _ مايقال من أن الاسلام متميز عن غيره من الاديان بالتوحيد . فقد علَمنا القرآن أن كل الرسل والانبياء كانوا يدعون أقوامهم إلى عبادة الله وحده وينفون الشرك في كل مظاهره الفكرية والوثنية ، كما أن قواعد التعامل فيمابين المؤمنين كما جاءت في القرآن لم تكن جديدة على الأديان وإن كانت أكثر اكتمالاً . إنما الذي يميز الاسلام حقاً هو ما حقق به آخر وأرقى مراحل تطور علاقة الانتماء الديني . وحدة البشر في الدين في كل مكان وفي كل زمان لتتسق مرة واحدة وإلى الأبد ، وحدة الدين مع وحدة الكون مع وحدة البشر . وليس أبلغ ولاأروع من التدليل على لزوم هذا الاتساق لصالح البشر ، وعلى أنه مناط الصلاح في الكون ، من أن الله يتخذه حجة ً على وحدانيته ( لو كان فيهما آلهة إلآ الله لفسدتا ) { الانبياء : 22 }




privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد